23 من الشهر الجاري يكون قد مر 60 عاما على قيام ثورة يوليو 1952.. وهي ذكرى لحدث تاريخي كبير شهده القرن الماضي وتجاوز تأثيره حدود مصر ومنطقتنا العربية إلى كثير من قارات العالم، التي كانت تبحث شعوبها عن الاستقلال والحرية والعدل والكرامة. ويوليو صاحبة الجمهورية الأولى كانت مشروعا لنهضة قومية استطاع في عنفوانه، وعبر إجراءات سياسية واجتماعية واقتصادية عديدة ـ وقبل انقلاب السادات ومبارك عليه ـ أن يعيد صياغة الواقع، ونهضت طبقات جديدة من أبناء التعليم المجاني، وتكافؤ الفرص وتشييد آلاف المصانع والمدارس والجامعات وإقامة العديد من المشروعات الكبرى، وارتفع سقف الأحلام لأجيال عديدة، بدأت تشارك دفاعا عن مصالحها ولتأمين صعودها الاجتماعي، خاصة أن الثورة مرت بانتصارات وانكسارات وواجهت تحديات وتعرضت لمحاولات التدمير والاغتيال، وانعكس كل ذلك على وعي هذه الأجيال التي ولدت مع الثورة، واشتبكت معها صعودا وهبوطا.. منهم من قبض على الجمر وظل يقاوم، ومنهم من تملكته الحيرة حتى تمكنت، ومنهم من اختلط عليه الولاء لمصالحه والولاء للسلطة فجمع بينهما، ومنهم من ذهب يجرب الانتقال بين العقائد ويعيد مراجعة أفكاره.
60 عاما على ذكرى ثورة مصرية عظيمة حكمت بانحيازها للشعب فانحاز لها وأعطاها المشروعية، وعندما توقف هذا الانحياز وتبدل كان الفراق، وسقطت الشرعية الحقيقية عن جمهورية السادات ومبارك التي حملت جينات واحدة أعادت التبعية والفساد واحتفظت بكراهية البسطاء وأبناء الأجيال الجديدة الذين انسد أمامهم أفق المستقبل، فكانت 25 يناير 2011، ثورة جديدة تجدد الأمل، وتعيد صياغة الأحلام الكبرى، غير القابلة للموت أو الاندثار، وتكتب صفحة جديدة بدماء الشهداء والمصابين، لكنها تواجه تحديات عاتية، وكل إنجازاتها يقف عند مفارق طرق، ثوار ضحوا لا يحكمون، وديمقراطية لا نجد لها أثرا إلا بانتخابات متتالية تمتد فيها طوابير البشر مع حبال الأمل والصبر، وصراع واتفاق محسوب بين جناحي السمع والطاعة في المجلس العسكري ومكتب الإرشاد على سلطة غائبة وصلاحيات لا يمارسها أحد، ومشهد يزيد ارتباكه ثنائية استعراض القوة في طوابير العروض العسكرية، وميليشيات الجماعة في الميدان وأمام المحاكم والتحرش بالمخالفين لهم، في رسائل لا تخطئها عين ولا بصيرة، وجماهير مشدودة الأعصاب على مدى عام ونصف العام بين الأمل والرجاء واليأس والإحباط، وسراب يتبعه آخر عن تغيير أحوالهم المعيشية التي تزداد سوءا، وعن أمنهم المفتقد. ونخبة قديمة وجديدة تزيد من عمق الانقسام وتعجز عن إجراء أي حوار أو تساهم في الوصول إلى توافق، وحملات اغتيال ممنهجة لرموز وشخصيات وطنية تراد إزاحتها من الطريق، وكأن ثقافة الاستبداد ودولته أقوى من الثورة ومن إرادة الشعب!
في هذا المناخ المضطرب لمرحلة حرجة من ثورة عظيمة، وفي ذكرى يوليو، العيد القومي لمصر، كيف نصل ما بين الحلقات من تاريخنا الوطني وأن نقف ضد قطع أوصال هذا التاريخ؟! وهنا أعود لجزء من مقدمة محمد حسنين هيكل للعدد الخاص الذي صدر عام 1969 عن مركز الوثائق والبحوث التاريخية بالأهرام، بمناسبة مرور 50 عاما على ثوره 19: "إن تاريخ مصر تعرض لحملة من سياط التعبيرات المطلقة والسهلة، تدمغ الماضي إجمالا، وتظن أنها بذلك ترضي الحاضر، ناسية أن الحاضر ـ مهما كان اختلافه عن الماضي ـ ولد في أحشائه وبدا فيه، وبالتالي فإنه ليس هناك ذلك الانغلاق الكامل بين "عهد بائد" و"عهد جديد" قام على أطلاله، ومن نتيجة ذلك أن ساد تصور سطحي بدا معه ـ خطأ ـ وكأن تاريخ مصر الحديث لم يبدأ إلا بعد 23 يوليو 1952، وكان ذلك إهدار غير مقبول ـ كما أنه غير صحيح ـ لصفحات مهمة من تاريخ مصر الحديث، جرت وقائعها قبل سنة 1952، كما أنه لم يصدر أبدا عن جمال عبد الناصر، الذي أصبح رمز الثورة، ما يكرس القطيعة بين مراحل مهمة في تاريخ الوطنية المصرية".
أعتقد أن طريقة الاحتفال بالذكرى الستين لثورة يوليو والعيد القومي لمصر، هي تحدٍ لكل ثوار يناير، وليس لفصيل أو تيار بعينه.. فهل تظل إجابته معلقة أيضا على مفارق طرق اختيارات اللحظات الحرجة التي نعيشها؟!