في بداية يناير من العام الجاري وبعد ثلاثة أيام متصلة من مرافعة النيابة، شهدت قاعة محاكمة مبارك ووزير داخليته، وستة من كبار مساعديه في قضية قتل المتظاهرين السلميين إبان أحداث ثورة يناير، تصفيقا حادا دوى في أرجاء القاعة احتفاء بممثلي النيابة العامة وأدائهم المتميز خلال المرافعات، التي أكدت تورط جميع المتهمين في ارتكاب جرائم قتل المتظاهرين بالأسانيد القانونية المتعددة، التي ارتكنت إليها النيابة في التحقيقات، وبدت الدهشة والمفاجأة على وجوه الحاضرين في الجلسة لدى عرض النيابة العامة للعديد من أدلة الإدانة، في ظل صعوبات ومخاطر تعرض لها ممثلو النيابة تتعلق بعدم تلقيهم أي تحريات من جانب الجهات الشرطية، وجهاز الأمن القومي، وامتناع بعضهم عن تقديم يد العون على نحو اضطرهم إلى القيام بأعمال التحري بأنفسهم، وتعريض حياتهم للخطر، واستماعهم لما يزيد على ألفي شاهد في تلك الأحداث، ودراسة وتحقيق آلاف الأوراق والمستندات، وعرض تفاصيل قانونية دقيقة تتعلق بكيفية توصلهم إلى وقوف المتهمين وراء قتل المتظاهرين، من خلال أوجه الاتفاق والتحريض والمساعدة عليها.
هكذا لخصت وسائل الإعلام ما جرى لمرافعة النيابة في اليوم الأخير التي أطلقت على المحاكمة "قضية القرن"، ووصفتها النيابة "القضية الأولى والأهم في سجل تاريخ القضاء المصري، بل في سجل التاريخ المصري والعربي والعالمي". المرافعة اعتبرت 25 يناير من الأيام الخالدة، وأكدت أن مبارك حنث في يمينه ولم يراعِ إلا مصالح أسرته وبطانته، كما خذل شعبه وعاند الزمن وآثر البقاء على كرسي الحكم، ولم يعتبر مما حدث للسادات، ولم يقدر صبر الشعب على ممارسات الظلم والاستبداد، وأنه استحق انتهاء مشواره بالانكسار والذل.
وأكدت أن النظام صوب بنادقه إلى الشهداء والمصابين وقتل نفرا من الشعب، وسبب أوجاع آباء وأمهات وأشقاء مكلومين تملؤهم الحسرة والألم، وأمة فقدت خيرة من شبابها وأطفالها ونسائها على يد نظام قمعي مستبد، تعامل مع المتظاهرين السلميين بقلب ميت وباتفاق جنائي بين جميع المتهمين على ضرب المتظاهرين بصورة عشوائية رميا بالرصاص الحي والخرطوش والمطاطي في مواضع قاتلة، وملاحقتهم في الشوارع ودهسهم بسيارات الشرطة، وفي توقيت واحد في الميادين والساحات العامة بالمحافظات على نحو يقطع بأنهم لم يقوموا بتلك الأفعال من تلقاء أنفسهم.
لكن المثير في أمر هذه المرافعة أن المحامي العام أشار إلى أن جميع من تقدموا إلى النيابة العامة منذ فتح التحقيقات لم يرشدوا عن هوية مرتكبي تلك الجرائم، وإنما قدموا معلوماتهم من واقع مشاهدتهم، لكنه استدرك أن أحداث القتل جرت على الملأ وعلى مرأى ومسمع من الجميع ونقلتها الفضائيات، وأظهر بعضها وجوه ضباط الشرطة الذين قاموا بإطلاق النيران صوب المتظاهرين، وبالرغم من ذلك لم تكشف وزارة الداخلية عن هوية هؤلاء الضباط!!
وتعقيبا على مرافعة الدفاع قال المحامي العام جملة ذات مغزى ودلالة: "إنه على الرغم من محاولة الدفاع التأكيد على أن هوية مطلقي النيران من الضباط تبقى مجهولة، إلا أن التحقيقات ستظل قائمة لمدة 10 سنوات كاملة بوصفها جناية لا ينقضي التقادم فيها إلا بمرور هذه المدة، التي ربما قد تشهد استيقاظ بعض الضمائر والكشف عمن قاموا بتلك الأفعال".
من يعيد قراءة تفاصيل مرافعة النيابة، ومن يسترجع المقدمة "الثورية"، التي قدم بها المستشار أحمد رفعت رئيس المحكمة للحكم الذي صدر بتبرئة الجميع عدا مبارك والعادلي ـ مؤقتا ـ ومن يتذكر بكاء النائب أكرم الشاعر ووالد أحد المصابين في الجلسات الأولى لمجلس الشعب عقب انتخابه، الذي طالب بمحاكمات حقيقية وليست هزلية لقتلة الشهداء، ومحاسبة الذين أخفوا أدلة الإدانة، وبمحاكمة سياسية تستطيع أن تأخذ القصاص للشهداء، وهو ما لم يتم بالطبع، ومن تابع جلسة مجلس الشعب الذي تحكمه حسابات الجماعة والعجز المقيم يوم السبت الماضي، الذي حاول بعض أعضائه تحت ضغط صدمة الناس من الحكم، الحديث على استحياء عن المحاكمات الخاصة والعدالة الثورية. من يتذكر كل ذلك ويمعن التفكير يكتشف أننا أمام مهزلة سياسية كبرى يشترك فيها كل الذين يصرون حتى الآن على الحديث عن جولة إعادة فيما يسمى الانتخابات الرئاسية!!