فى البدء كان الحديث عن أن لكل ثورة تكلفة اقتصادية، وأننا مستعدون بحق لتحمل هذه التكلفة من أجل الخلاص من نظام قاد الوطن إلى هذه الحالة من التردى السياسى والاقتصادى، لكننا فوجئنا بعد نجاح الثورة سياسيا أن منطق الثورة وأدواتها بدأ يوظف على نحو فئوى بالغ الجزئية فيما عرف بالوقفات الاحتجاجية من أجل مطالب فئوية. رافعو هذه المطالب هم أصحاب حقوق لا شك فيها، تصوروا ــ ونجحوا فى بعض الأحيان ــ إن الثورة التى أطاحت بنظام شديد الاستبداد قادرة على أن تعيد لهم حقوقهم فورا، غير أنهم لم يستطيعوا أن يربطوا بين مشاكلهم والمشكلة الأشمل للوطن، ولا وجدوا من قيادات الثورة من يخاطبهم بهذا المعنى، فلكى يحصل كل منا على حقه يجب أن يتعافى الوطن أولا، وإذا كنا قد صبرنا سنوات طويلة على هذه الأوضاع فى ظل نظام مستبد فلماذا لا يستمر الصبر بعض الوقت حتى يقف الاقتصاد المصرى على قدميه بدلا من أن نكون معول هدم إضافيا فى بنيانه؟
خيل إلينا بعض الوقت أن حدة «الوقفات الاحتجاجية» قد خفت، لكن الخطر استمر محدقا بالدولة والثورة معا. تعددت مصادر الخطر من بلطجة تصدت لها القوات المسلحة بأقصى درجات الحزم، لكن ظاهرة الوكالة عن الدولة فى تنفيذ ما يتصور البعض أنه صحيح القانون أمعنت فى الانتشار، فتابعنا فرقا من السلفيين تحكم بأن أضرحة الأولياء مخالفة لصحيح الإسلام وتقدم على هدمها، وتعمل على هدم كنيسة واحتلالها كى تصبح مسجدا، و«تبتكر» حدودا جديدة يتم تطبيقها على من يحكمون بأنه خالف شرع الله، وتحتجز إمام مسجد شهير لتمنعه من الخطابة كى يحل أحدهم محله. والحق أن الظاهرة جزء من ظاهرة أعم نصب بموجبها الناس أنفسهم قضاة وسجانين فهم يهاجمون دور المحاكم التى لا تعجبهم أحكامها، ويهاجمون السجون طلبا للإفراج عن ذويهم (!)، ويقومون بأعمال شغب غير مسبوقة فى مباراة دولية لكرة القدم، وما إلى هذا.
تقبلنا هذه الظاهرة على أساس أنها مؤقتة سوف تتراجع باقتناع أصحابها بعدم جدوى ما يفعلون أو إقناعهم بذلك من قبل القيادات المسئولة، لكن المسألة لم تتوقف بل لعلها تفاقمت، ولعل ما حدث فى قنا بعد القرارات الأخيرة لتغيير المحافظين خير دليل على ذلك، فقد اعترض عشرات الألوف فيما يشبه العصيان المدنى على شخص محافظهم الجديد، والسبب المعلن هو أنه ينتمى لقيادات الشرطة فى العهد السابق، غير أنه من الصعب تجاهل الشبهة الطائفية فى المسألة، ولو كان هذا صحيحا ــ وأغلب الظن أنه كذلك - فإنه يعنى للأسف أن هناك قوى تتلاعب بأمن المجتمع وتماسكه، وهى قوى معروفة للجميع وإن لم نملك دليلا دامغا على إدانتها، كما يعنى أن المجتمع المصرى يسير إلى الخلف وبسرعة، فبعد أن كان أمن الوطن معلقا بأداء الجيشين الثانى والثالث فى حرب أكتوبر اللذين قاد أولهما المرحوم الفريق فؤاد عزيز غالى لا يستطيع قطاع من المواطنين تحمل محافظ قبطى. والأمر يبدو جد خطير، لأن تراجع الدولة عن قرارها ستكون له أوخم العواقب على هيبتها، وبقاء الحال على ما هو عليه يحتاج حكمة بالغة فى المعالجة.
وغير ذلك حدث ولا حرج عن عشرات من الوقفات الاحتجاجية، التى تتم فى يوم واحد أو يومين، ومعظمها يطالب كما سبقت الإشارة بحقوق مشروعة لكن الاستجابة الفورية لها مستحيلة، وكثير منها ــ أو بعضها على الأقل ــ لا يمثل أولوية ملحة تستحق أن يكون ثمنها توقف عجلة الاقتصاد، كما أنه يبدو أن ثمة إدمانا قد حدث لأسلوب «الوقفات الاحتجاجية» بحد ذاته بغض النظر عن فاعليته وبعدا تاما عن اتباع أساليب أكثر مؤسسية لتوصيل المطالب يمكن أن تعقبها هذه الوقفات إن فشلت الأساليب المؤسسية. ولا أنكر أننى أصبت بقدر غير يسير من الدهشة عندما قرأت أن مئات من أساتذة الجامعة نظموا وقفة احتجاجية أمام وزارة الدفاع انتهت بخروج ممثل للمجلس العسكرى وتسلمه مذكرة بمطالبهم، وكان من الممكن أن تحدث النتيجة نفسها لو ذهب وفد محدود العدد وقام بتسليم المذكرة، التى أعقبت مؤتمرا قيل إنه ضم قرابة ألف وأربعمائة أستاذ عقد بنادى أعضاء هيئة تدريس جامعة القاهرة، وكان ممكنا أن يقرر المؤتمر بداية أن يكون هذا أسلوبه فى رفع المطالب مع الاحتفاظ بالحق فى ممارسة مزيد من الضغوط بوسائل أخرى إن لم يتم التوصل إلى تلبية المطالب الممكنة.
وإذا كان هذا قد حدث فليس غريبا أن تحدث فى اليومين نفسيهما تظاهرات ضد عديد من القرارات، ووقفات احتجاجية متلاحقة تعددت أسبابها والهدف واحد من موظفى الدولة والقطاع الخاص وغيرهم، ولكى يكتسب الأمر بعضا من الطرافة كانت هناك وقفة احتجاجية من أنصار مرتضى منصور تطالب بإلغاء قرار حبسه (!) كل هذا بالإضافة إلى ما يحدث ولا يجد طريقه إلى وسائل الإعلام.
يحتاج المرء إلى ترتيب الأفكار فى شأن هذه المعضلة، فالمطالب التى ترفعها معظم الوقفات الاحتجاجية مشروعة لكن الاستجابة الفورية لها جميعا مستحيلة، كما أن بعضها على الأقل بالغ الجزئية ولا يمثل أولوية، ولا أحد من المحتجين مستعد للاقتناع بهذا، ولا أحد من القيادات يبذل جهدا فى هذا الاتجاه، وبعض قرارات المجلس العسكرى الأعلى يحتاج إلى مزيد من المشورة واستطلاع الرأى قبل إصداره. لن يسأل المجلس بطبيعة الحال فردا فردا عن رأيه وإنما يمكنه أن يتواصل مع قادة الرأى والخبراء قبل إصدار القرارات الحساسة وإلا سوف يتواصل الخطر الذى قد يفضى إلى دخول البلاد فى دوامة من عدم الاستقرار لا تبقى ولا تذر، وتردٍ اقتصادى مخيف. وبدلا من أن يتحدث مسئولون عن الحاجة إلى ضخ عشرة مليارات دولار فى الداخل ويقوم رئيس الوزراء بجولة فى الخليج للترويج للاستثمار فى مصر فإن الحل هو العمل الدءوب لإعادة تسيير عجلة الاقتصاد واسترداد الأموال المنهوبة، التى تثبت أن مصر ليست فى حاجة إلى مساعدات خارجية بقدر ما هى فى مسيس الحاجة لمحاربة الفساد، ولا ننسى أن التدفقات المالية السخية من الخارج أو الاستثمارات سوف ترسى قيودا حقيقية على حرية حركة الثورة بصفة عامة.
يقولون إن كل الثورات تمر بمرحلة عدم استقرار بعد نجاحها، لكن تفرد ثورة يناير المصرية يجعل من حقنا أن نحلم بطريق آمن وسريع إلى مستقبل يستحقه هذا الوطن العزيز.