تكمل الانتفاضة السورية هذا الأسبوع شهرها السادس دون أن يلوح في الأفق أي دلالة على انتهائها، بل يمكن القول إنها تزداد زخما وانتشارا، فقد بدا واضحا أن الدولة السورية بأجهزتها الحكومية - وبالذات الأمنية - قد أنهكت بشكل كبير. أمام هذا المشهد يمكن استنتاج ملاحظتين: أولاهما، أن كل وسائل النظام لم تفلح في كبح جماح العصيان المدني. وثانيتهما، أن سوريا لم يعد بوسعها - كما نبه لذلك عدد من المراقبين والكتاب - العودة إلى ما كانت عليه قبل 26 يناير (كانون الثاني)، فقد جرت في الساقية دماء غزيرة.
على الرغم من ذلك كله ينبغي الإشارة إلى أن الحكاية السورية لا تبدو في نهايتها، بل لا تزال في البدايات، فالنظام السوري المنهك لا يزال يصارع البقاء بجسارة وضراوة، وقد بدا أن النظام الأمني بذراعيه، الحزبية والطائفية، أكثر مراوغة وأقل اصطداما مع جماهير المتظاهرين مما كان عليه في الأيام الأولى. القتلى والجرحى ما زالوا يتساقطون بأيدي النظام، والمعتقلون يعدون بالآلاف، ولكن رغم ذلك فإن النظام السوري لا يزال قائما على الرغم من حالة العصيان المدني التي ليس لها مثيل في تاريخ سوريا المعاصر. صحيح أن علاقاته الإقليمية والدولية تضررت، وتلوح فوقه غمامة من تهم الحرب والعقوبات الدولية، ولكنه لا يزال الممثل الشرعي للدولة السورية في نظر المجتمع الدولي لسبب وحيد: وهو غياب البديل (السياسي) الذي يتمكن من ملء الفراغ السياسي، وإجراء العملية الانتقالية الضرورية.
في الحالة السورية يصبح «البديل» مسألة حساسة للغاية، فعقود من الحكم المستبد للحزب والطائفة قد أضعفت فرص نشوء أحزاب وجمعيات مدنية قادرة على تعويض الفراغ السياسي والأمني الذي قد يحدثه سقوط النظام. يضاف إلى هذا عزوف القوى الإقليمية والدولية عن التدخل المباشر في سوريا، وهذا بحد ذاته خلق وضعا صعبا أمام المتظاهرين المطالبين بإسقاط النظام، فمن جهة هم - أي المعارضة على الأرض – مطالبون بإسقاط النظام وحدهم، وباستخدام الوسائل السلمية، أي مزيج من المظاهرات والعصيان المدني، ومن جهة أخرى يفترض بهم أن يوحدوا وينسقوا موقفهم - أي ترجمته إلى مجلس أو حكومة انتقالية - داخليا وخارجيا في الوقت الذي يصادمون فيه النظام بشكل يومي.
هنا، يستغرب البعض الحماس الشديد الذي أبدته الدول الغربية، وبعض الدول العربية، للتدخل المباشر في الأزمة الليبية بدعوى حماية المدنيين. فسوريا تقوم الآن باستخدام الجيش والكتائب الخاصة ضد المدنيين على امتداد المدن والقرى السورية، كما أن سلوك سوريا وسياساتها في عهد بشار الأسد لا تقلان راديكالية - وتخريبا - عن سياسة القذافي، فكلا النظامين امتهن سياسة الاغتيالات، ووضع على عاتقه تهديد الاستقرار والسلم في المنطقة، ولكن في الوقت الذي تم فيه تبرير مساعدة الثوار على إزاحة القذافي، أحجمت تلك الدول عن المساعدة في إزاحة النسخة الشامية من القذافي. البعض يجادل بأن الأمر متعلق بالمصالح النفطية، والقرب الجغرافي لليبيا من الحدود الأوروبية، ولكن رغم ذلك فإن سوريا لا تقل أهمية – استراتيجيا – في ما يخص الاستقرار في المنطقة.
لا شك أن تركيا، والولايات المتحدة والأوروبيين، قد أعلنوا صراحة بأن بقاء الأسد لم يعد ضروريا، وأنهم يفضلون رحيله على استمرار سقوط القتلى والمظاهرات، وهناك تقارير تتحدث عن تنسيقهم مع المعارضة داخليا وخارجيا، وتقديم مساعدات في ما يتعلق بوسائل الاتصال والتوثيق، ولكن إزاحة نظام تتطلب أكثر من ذلك.
الحقيقة المرة لكلا طرفي النزاع - النظام والمعارضة - هي أن البلد منقسم طائفيا، وأنه في حال انتصر أحد الطرفين فإن المعادلة الداخلية ستتغير. النظام العلوي بوصفه ضامن الأقليات الأخرى (مسيحيين ودروزا) في مواجهة شرسة مع معارضة سلمية غالبيتها من الطائفة السنية، وهو وإن كان يتدثر بنظام حزبي قومي – علماني، فإنه في النهاية يعتمد بشكل كبير على ولاء الطائفة والتفاف الأقليات حوله، ولهذا كان النظام يتبرأ من الطائفية في أوقات قوته، ويستدعيها في أوقات الضعف.
اليوم، تحاول المعارضة القول إن النظام هو من يريد الزج بالطائفية، وربما كان ذلك صحيحا، ولكن هذا لا ينفي أن البلد في حالة غليان طائفي توشك أن تتحول إلى حرب أهلية. محاولة التقليل من المسألة «الطائفية»، وافتراض أن البلد يشهد حالة تحول ثوري ديمقراطي باستعمال الوسائل السلمية، قد تؤجل النظر في هذه الأزمة، ولكن ستظل القضية قائمة.
بالحسابات السياسية والاقتصادية كان يجب أن يسقط النظام السوري - وفق بعض التقديرات - في غضون الثلاثة أشهر الأولى - أي تسعين يوما - حتى إن وزارة الدفاع الإسرائيلية أجرت دراسة بواسطة خبراء دوليين توصلت إلى أن نظام الأسد سيسقط لا محالة في غضون ثلاثة إلى ستة أشهر بالنظر إلى توقف الاقتصاد والإنتاج بل والخدمات في عموم سوريا نتيجة للعصيان المدني، ولكن لا يزال النظام قائما، بل وينشط في مقارعة المتظاهرين.
هناك تفسيرات كثيرة بعضها يشير إلى دور حزب الله وإيران في دعم الأسد اقتصاديا وعسكريا، وهما لا شك حريصان على بقائه حتى النهاية، ولكن ماذا يستطيع الإيرانيون - أو اللبنانيون - تقديمه أمام انتفاضة شعبية ضد نظام أقلوي؟
ما لا يريد البعض التصريح به، هو أن بقاء الأسد يعود بشكل رئيسي إلى التفاف طائفته وغيرها من الأقليات حوله في معركة يرونها مسألة «بقاء»، لقد شاهد العلويون والمسيحيون جيدا كيف قاد الغزو الأميركي في العراق إلى استئثار الأحزاب الشيعية العراقية - المعارضة سابقا - بالحكم، وكيف تم التعاطي مع كل بعثي سابق - وكثير منهم سنة - عبر الاجتثاث وخلايا الاغتيال الطائفي، وفي الوقت ذاته استهدفت الأقليات الدينية كالمسيحيين والأيزيديين بشكل منظم بغية تهجيرهم.
سوريا هي العراق الآخر، وهناك قلق مبرر من تكرار التجربة العراقية المريرة في سوريا وهذه المرة دون تدخل عسكري أجنبي. ما حدث من انقسام وانشقاقات في مؤتمرات المعارضة، في كل من أنطاليا وبروكسل وباريس، دليل على أن الوحدة والوطنية السوريتين غير متوافرتين بين فئات المعارضة. البعض يجادل بأن مسألة تشكيل المعارضة وإجراء عملية انتقالية تحتاجان إلى وقت، ويكتنفهما عادة اختلافات وانقسامات، ولكن الحالة السورية تشي بانقسامات أكثر عمقا وتعقيدا.
إذا سقط النظام، وهو احتمال قائم، فإن الأغلبية السنية مطالبة بأن تقدم ضمانات للغير بأنها ستحترم التعايش المشترك، وأنها لن تلجأ إلى استهداف الطوائف الأخرى تحت ذريعة اجتثاث البعث السوري. قد يستنكر البعض مطالبة «السنة» الآن وهم تحت الاستهداف بأن يكونوا مسؤولين عن صياغة التوافق بين صفوف المعارضة، ولكن الدرس العراقي يخبرنا بأن زوال نظام استبدادي واستبدال انتخابات عامة به لا يعنيان زوال الطائفية، فهي تلعب دورها السيئ والإقصائي عبر الوسائل الجديدة.
إذا كان الأكراد السوريون لا يثقون بجدية العرب في دعم مطالبهم، وإذا كان المسيحيون والدروز قلقين من أن يستبدلوا بحكم الأقلية المستبد حكم الأكثرية المنتخب، فإن هناك مشكلة «طائفية» عميقة الجذور بين المكونات الشعبية لا ينبغي تجاهلها أو التقليل من تأثيرها على سير الأحداث.