ومازال للولايات المتحدة قوات فى أوروبا قوامها 80 ألف فرد، تنتظم فى أربعة ألوية مقاتلة، وتقوم إدارة أوباما اليوم الآن بسحب أحد هذه الألوية، وقد يتبعها لواء آخر قريبا. ويأتى القرار فى أعقاب أمر بتراجع دور الطائرات الأمريكية فى ليبيا.
وتتردد شائعات عن أن الرئيس يمكن أيضا أن يلغى خطط حائط الدفاع الصاروخى فى أوروبا. فالأوروبيون قد يرغبون فى درع صاروخية تابعة للناتو تحميهم ضد أنظمة مارقة مثل نظام طهران، لكن المشكلة أنهم لا يريدون المساهمة فى تحمل التكلفة. وفى المجمل، يدعم موقف أوباما الفكرة القائلة إن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر أوروبا نقطة محورية فى مصلحتها الاستراتيجية الجغرافية. ولا شك أن الرئيس سوف يمر على لندن الشهر المقبل فى زيارة رسمية لمدة يومين يلتقى فيهما الملكة فى قصر باكنجهام. وسوف يحضر مؤتمر قمة الثمانى فى فرنسا ويمضى أيضا بضع سنوات فى وارسو. غير أن هذا سلوك ظاهرى يخفى الجوهر؛ وهو أن الأمريكيين ينفضون أيديهم عن أوروبا.
ولدى الولايات المتحدة الكثير من الأولويات الضاغطة فى شرق آسيا؛ باكستان وأفغانستان والشرق الأوسط. وربما تكون أوروبا قد نسيت العراق؛ غير أن الولايات المتحدة مازالت منخرطة فيه للغاية. اما داخليا، فيواجه أوباما عجزا يقدر بعدة ملايين من الدولارات. وإذا كان الأوروبيون غير راغبين فى دفع ثمن أمنهم، لماذا ينبغى على دافعى الضرائب الأمريكيين تسديد الفاتورة؟
ولا يشعر الجميع فى واشنطن بارتياح لذلك الأمر، ويعارض السيناتور ريتشارد لوجار، الصوت الجمهورى البارز فى السياسة الخارجية، عمليات سحب القوات الأخيرة. وهو يقول إن أى وجود متقدم فى أوروبا يعتبر تجسيدا قويا لالتزام الولايات المتحدة بالتحالف. ومع ذلك، يعتبر السيد لوجار ضمن مجموعة آفلة من مدرسة المنتمين للأطلنطى القديمة، حتى داخل حزبه. إلا أن إدارة جورج بوش، كانت قد اقترحت تخفيضات أكبر فى القوات المتمركزة فى أوروبا.
ومن الممكن تفهم السبب فى انزعاج قادة أوروبا. فهم يسعون بالفعل لفرض منطقة حظر طيران ليبى، الأمر الذى لا يعتبر حتى نزاعا متوسط الحجم. لم تقدم ألمانيا مساندة، فاصطفت إلى جانب روسيا والصين فى معارضة العملية، وهو ما فعلته بولندا. كما ساهمت إيطاليا والسويد بطائرات حربية، ولكن مع تحفظات، حيث يمكن لطياريها التحليق فى السماء على ألا يطلقوا النيران على أى شىء. وهو ما يضع معظم العبء على الفرنسيين والبريطانيين، الذين يقال إنهم لا يتميزون بدقة القصف. فما الذى يمكن أن تفعله أوروبا فى حرب حقيقية؟
وقد أمضيت وقتا كبيرا مؤخرا فى مؤتمرات وحلقات بحث وندوات حول مستقبل الأمن الغربى. وكان أحدثها، تجمعا ممتازا فى مؤسسة ديتشلى، ألقى نظرة فاحصة على طبيعة وتوزيع القيجرى تطرح عدة موضوعات: أحدها يرى أن الفناء الخلفى لأوروبا لم يعد من الممكن التنبؤ بما سيحدث فيه، وصار مكانا محفوفا بالمخاطر؛ والموضوع الثانى أن أوروبا تواجه تهديدات جديدة ومتفاوتة، سواء من هجمات الإنترنت أو الإرهابيين. وثالث المواضيع أن الولايات المتحدة سئمت العمل كما لو كانت المسئولة عن دفع فواتير الناتو، والموضوع الرابع، أن الناخبين الأوروبيين غير راغبين فى مواجهة التحدى الأمنى.
والتهديدات واضحة بما فيه الكفاية. فالانتفاضات العربية تبشر على المدى البعيد، بظهور منطقة مجاورة أكثر استقرارا وازدهارا جنوب المتوسط. ولكن على المدى القريب، كما نرى فى ليبيا، فالمخاطر تتمثل فى نزاع طويل وفوضى عند أعتاب أوروبا.
وتمثل بلدان البلقان مصدرا آخر للخطر. فبعد نحو 15 عاما من اتفاقات دايتون، مازالت المنطقة تعانى الاضطراب المسلح. وتبدو البوسنة على وشك التمزق العرقى. وترفض صربيا قبول قيام دولة كوسوفو. وصار جزءا كبيرا من مناطق يوغسلافيا السابقة مركز قيادة وتحكم للجريمة الدولية، وتجارة المخدرات، والهجرة غير الشرعية.
وفى أنحاء القسم الشرقى من القارة، توجد مخاوف مبررة من أن تستغل روسيا بحزم رحيل الأمريكيين لإعادة تأكيد هيمنتها على مساحة الاتحاد السوفييتى السابق وما عداها. وقد أضفى ديمترى ميدفيديف على السياسة الخارجية الروسية وجها ودودا على نحو ما؛ غير أن القرارات الحقيقية مازال يتخذها فلاديمير بوتين. وفى هذه الظروف، ربما يقول الكثيرون إن التصرف الذكى الذى يتعين على الأوروبيين اتباعه هو أن يتوسلوا للأمريكيين كى يبقوا. غير أن الحقيقة القاسية هى أن أوروبا بحاجة للعلاج بالصدمة. فمادام الأوروبيون ينعمون بالراحة تحت مظلة الأمن الأمريكى، فسوف يواصلون العيش فى يوتوبيا ما بعد الحداثة، حيث الشىء الوحيد الذى يقومون به بالنسبة للإنفاق على الدفاع هو وقفه، والقوة الوحيدة التى تستحق الحديث عنها هى مجموعة من التصرفات واضحة النعومة.
وعلينا أن نقر بما يخبرنا به أن الرئيس الفرنسى ساركوزى ورئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون من أن العالم مكان أكثر خطورة. ولدى أوروبا أيضا مسئولية فى منع أنظمة مثل نظام القذافى من ذبح شعوبها. ولكن ما الذى يفعله هؤلاء القادة حتى وهم يسعون للإطاحة بالنظام الليبى؟ لا شىء سوى إجراء التخفيضات الحادة فى قواتهم المسلحة.
وتشير الأرقام التى أوردها توماس فالاسيك فى تقرير ملهم أعده لمركز الإصلاح الأوروبى إلى أن معظم البلدان الأوروبية تنفق على الدفاع بالفعل أقل كثيرا من نسبة اثنين فى المائة من الدخل القومى التى وضعها الناتو. وتخطط دولة أو اثنتان لتجميد الإنفاق. بينما تقوم بقية الدول بتخفيض إنفاقها.
ويدعو فالاسيك ولديه الحق فى ذلك إلى حشد التكاليف والقدرات. غير أن المشكلة تتجاوز الكبرياء الوطنى. فالتخفيضات تتعلق جزئيا بالتقشف المالى؛ كما تتعلق جزئيا أيضا بالإحجام عن توضيح التهديدات الجديدة للناخبين المترددين. ويبدو أن العديد من الساسة صاروا غير قادرين، بعد العراق، على التمييز بين التدابير الوقائية الجريئة وبين الخطط الهوجاء لشن حروب ليست ضرورية. وتشير خبرتى الخاصة إلى أن مطالبة أوروبا بإنفاق كاف لحماية مواطنيها، يعنى أن توصم بأنك تابع للمحافظين الجدد دعاة الحروب.
غير أن الغطاء الأمنى الأمريكى هو ما يتيح للساسة وصناع القرار التعايش مع التناقض بين ارتفاع مستويات التهديد وانكماش حجم القوات المسلحة. ومادام الوجود الأمريكى سوف ينتهى هنا، فسوف تستطيع أوروبا تدبير أمرها. وكما قلت، لقد حان الوقت كى يعود الأمريكيون إلى وطنهم. وبعدها سوف نستطيع نحن الأوروبيين أن ننضج.