برنانكي، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، اختار لحظة مثيرة للاهتمام للإعلان عن
أن الاحتياطي الفيدرالي سيخالف التقاليد المتبعة ويبدأ بعقد مؤتمرات صحافية
فصلية. ومن المقرر أن يُعقَد المؤتمر الأول في أعقاب
الاجتماع المقبل
للجنة السوق المفتوحة، في 27 نيسان (أبريل). ولن يكون هناك نقص في
المواضيع التي سيناقشها رئيس الاحتياطي الفيدرالي.
وما لم يتدخل الحس الفطري السليم، وهو رهان يندر أن يكون فائزاً في واشنطن،
فإن الحكومة الأمريكية ستصطدم في أواخر نيسان (أبريل) أو أيار (مايو)
بالسقف القانوني للديون التي تستطيع اقتراضها. وهناك إمكانية لإغلاق
الحكومة، وحتى العجز عن سداد الديون الحكومية الأمريكية، بصورة وشيكة
للغاية. إضافة إلى ذلك، فإن البرامج المثيرة للجدل من الاحتياطي الفيدرالي
لشراء السندات، أو ما يعرف بالجولة الثانية من التسهيل الكمي، من المقرر
لها أن تنتهي في حزيران (يونيو)، وثمة أسئلة تثار الآن حول ما يمكن أن يحل
محلها، إن كان هناك شيء من هذا القبيل. وهناك علامات تبرُّم واستياء حول
الأرباح التي تجنيها البنوك. ويريد المحللون أن يعرفوا ما سيقترح البنك
المركزي الأمريكي أن يقوم به حيال احتياطات البنوك الموجودة في ميزانيته
العمومية والبالغة 2000 مليار دولار.
من جانب آخر، الانتقادات الموجهة إلى الاحتياطي الفيدرالي اشتعلت مرة أخرى
في أروقة الكونجرس. كثير من الجمهوريين الجدد الذين جاؤوا إلى مجلس النواب
يريدون إخضاع البنك المركزي.
وليس هناك دليل يذكر على اندفاع الرأي العام للدفاع عن البنك. من وجهة نظر
جمهور الأمريكيين، برنانكي ليس بطلاً، رغم أنه ربما ينبغي أن يكون كذلك.
ويعتقد الناخبون أن البنك المركزي الأمريكي يتلقى بعض اللوم على ''الركود
العظيم'' (وهو أمر صحيح، رغم أن الأخطاء الكبرى كانت في عهد ألان جرينسبان،
الرئيس السابق لمجلس البنك)، ويعتقدون كذلك أن الجهود الرامية إلى تثبيت
استقرار الاقتصاد أخفقت وتسببت في تكاليف مدمرة (وهذا أمر ليس صحيحاً).
نستطيع أن نرى السبب في رغبة الاحتياطي الفيدرالي في التحدث بشكل علني
بالأصالة عن نفسه. وينبغي أن نعتبر أن الانفتاح الأكبر للبنك بخصوص
مداولاته أمرا جيدا في مجمله. فالاقتصاديون يطالبون بذلك منذ وقت طويل. كما
أن مسؤولي البنوك المركزية الأخرى، بما في ذلك البنك بنك إنجلترا والبنك
المركزي الأوروبي، يتلقون أسئلة من الصحافة حول صنع السياسة. وهذه من
الحالات النادرة التي نجد فيها أن أحد أذرع الحكومة الأمريكية أقل انفتاحاً
من نظرائه في أوروبا.
لكن علينا أن نتذكر أمرين. الأول، أن التدخلات الحاسمة التي حالت دون أن
يتحول الركود الاقتصادي الأخير إلى أمر أسوأ بكثير في الولايات المتحدة لم
تتم على يد الكونجرس، أو وزارة المالية الأمريكية، وإنما على يد البنك
المركزي. الثاني، أن هذه التدخلات لم تكن ''نقدية'' بصورة خالصة ـ ما يدعو
بالتالي إلى وقوعها ضمن أحكام الحجة الكلاسيكية الداعية إلى استقلال البنك
المركزي ـ وإنما كانت شبيهة بالتدخلات المالية العامة.
كان لا بد أن يتم الأمر بهذه الطريقة بسبب العجز المنفلت من عقاله لدى
الفرع التشريعي. كان برنامج التحفيز من المالية العامة لعام 2009، إن كان
لنا أن نصفه بأي شيء، برنامجاً أدنى من الحد المطلوب. فقد كان تصميم برنامج
إغاثة الموجودات المعتلة الذي كان منذ الوهلة الأولى مثيراً للجدل بصورة
مريرة، سيئاً في البداية. وكانت هذه السياسات هي أقصى ما يمكن أن يوافق
عليه الكونجرس بصورة صريحة. بالتالي كان لا بد للتدخلات الأخرى الأكبر
حجماً أن يتم توجيهها من حول الكونجرس. وأعيد تصميم الهدف من برنامج إغاثة
الموجودات المعتلة أكثر من مرة، دون الحصول على صلاحيات تشريعية جديدة. لكن
أكبر عملية مراوغة حتى الآن هي دفْع الاحتياطي الفيدرالي إلى إنقاذ
المؤسسات المالية عن طريق اقتناء كميات هائلة من سندات الدين المضمون
المشكوك فيها ووضعها ضمن ميزانيته العمومية. كان هذا سياسة مالية عامة،
وليس ''مقرض الملاذ الأخير''.
لو كان هناك شخص متشدد من حيث الالتزام بمواد الدستور، وحتى لو كان شخصاً
مقتنعاً بالحجة الداعية إلى استقلال الاحتياطي الفيدرالي، فإنه سيقول إن
البنك المركزي تجاوز دوره المحدد. أما الإنسان البرجماتي فإنه سيقول الحمد
لله لأن البنك قام بذلك.
بحسب الدستور، لا يوجد للولايات المتحدة صانع سياسة حاسم في المالية
العامة. أحياناً يكون لا بد من وجود جهة بهذا الاختصاص، وعلى نطاق واسع. في
عامي 2008 و2009 تدخل الاحتياطي الفيدرالي. وبسبب الهالة التي تحيط
بالبنك، والتعقيد البالغ لدوره وعملياته، وبعده عن الاختلال الوظيفي في
الكونجرس، استطاع برنانكي القيام بما كان ينبغي أن تقوم به وزارة المالية
والكونجرس. وأدت التدخلات إلى تثبيت استقرار الاقتصاد وبدء الانتعاش
الاقتصادي. وسينتهي بها المطاف إلى عدم تكليف دافعي الضرائب أي مبالغ. ومن
خلال أي جانب من جوانب الحس المنطقي السليم، فإن ما قام به الاحتياطي
الفيدرالي كان صواباً. لكن حاول أن تقول ذلك لمجلس النواب الأمريكي.
إحدى المشاكل بالنسبة لبنك مركزي أكثر انفتاحاً هي أنه لا يستطيع أن يكون
صريحاً تماماً حول ما حدث للتو. والحقيقة هي أن البنك لم يهتم بالتطبيق
الحرفي للقوانين. مشكلة أخرى هي أن البنك يواجه خطر انجراره أكثر من ذي قبل
إلى المساجلات السياسية الأمريكية، وهو مكان خطر لا ينبغي أن يكون موجوداً
فيه.
إذا أخفق الكونجرس في رفع سقف الديون قبل نهاية نيسان (أبريل)، فمن المؤكد
أن يركز برنانكي في مؤتمره الصحافي الأول على المخاطر التي ستترتب على
الاقتصاد الأمريكي في حالة إبقاء القضايا دون حل أو، وهذا أسوأ، بالسماح
بالوصول إلى سقف الديون. وقال منذ الآن كلاماً بهذا الخصوص، لكنه سيقول هذا
الكلام الآن بصورة بارزة أكثر من ذي قبل. بطبيعة الحال سيكون برنانكي على
حق، لكنه سيكون في وضع مناقض بصورة مباشرة للنواب الجمهوريين الذين يجادلون
بأنه لا ينبغي رفع سقف الديون، وأن السماح بالوصول إلى هذا السقف سيكون
تجربة جديرة بالترحيب بها.
حتى الآن لم يجتذب برنامج التسهيل الكمي من الاحتياطي الفيدرالي تمحيصاً
يذكر من الكونجرس. فحين يشتري البنك السندات الحكومية، فإنه يعمل على تسهيل
السياسة النقدية حتى عندما تكون أسعار الفائدة قريبة من الصفر. مرة أخرى
كان البنك على حق. وينظر بعض الجمهوريين إلى هذه السياسة على أنها تضخمية،
ومخاوفهم ليست علامة على الجنون، لأن التفكيك النهائي للسياسة يمكن أن يثير
بعض الصعوبات. لكن لأن التوقعات التضخمية متدنية تماماً في الوقت الحاضر،
فإن الوقت الحالي ليس هو الوقت المناسب لتشديد السياسة النقدية. والواقع
أنه حين تنتهي الجولة الثانية من التسهيل الكمي في حزيران (يونيو)، ينبغي
أن تبدأ الجولة الثالثة. لنفترض أن برنانكي سيوافق على ذلك، فهل سيكون هذا
الأمر أسهل، أو أصعب لو كان يأتي من إنسان له صوت عام أكثر بروزاً من ذي
قبل؟
يتوقف الأمر على مدى قوة الإقناع التي ستكون لديه. حين تدخل تحت دائرة
الضوء والجمهور العام، فمن الأفضل لك أن تحاول الحصول على مساندة الجمهور.
وللأسف عمليات البنك المركزي في ظل الظروف الأمريكية ليست من المواضيع التي
يمكن شرحها بسهولة. إن الإبقاء على استقلال الاحتياطي الفيدرالي، غير
الواضح لكن الضروري، في الإجراءات الاقتصادية الكلية سيكون امتحاناً عسيراً
بالفعل.