اليوم لن أمزح ولن أسخر من أوضاعنا، كما عودت نفسى وأوهمتها أن السخرية من
تردى الأحوال قد يقينا أمراض الضغط والسكرى، و"فقع المرارة"، ولكنى اليوم
أريد أن أبكى كلمات فلقد سئمت صبرنا وحلمنا ومللت ادعاءنا الدائم لسعادة لا
نمتلك نحن المصريين حظا منها!
فقط أريد أن أنطق بجملة واحدة: "ملعون أبو الفقر"، ذاك الذى يذل الجباه ويكسر القلوب ويخضع الرقاب.."ملعون أبو الفقر"، الذى ألجمنا سنين طوالا عن الثورة على كل من طغوا وجرعونا الهوان صنوفا وألوانا.
"ملعون أبو الفقر" الذى أقعد الأمهات يذرفن الدمع بجوار أبنائهن الشبان
الممددين فى انتظار الموت على فرش السرطانات أو فى وحدات الكلى، يتمنين فى
اليوم الواحد آلاف المرات لو كن هن اللاتى يرقدن هناك عوضا عن صغارهن!
"ملعون أبو الفقر" الذى يدفع الأب أن ينهر ابنه ذى الثلاثة أعوام حين يتشبث
بشراء نوع غال من الحلوى والفم ينهر، ولكن دماء القلب تقطر صامتة تلعن
فاقة الأب الذى هو أصلا ينهر عجزه أمام رغبات صغيره!
"ملعون أبو الفقر"
الذى جعل "اللحم" عزيزًا على موائد المصريين وتفنن فى أن يذل "أجدع شنب"
أمام سكين الجزار أو أمام أفواه صامتة تشتهى ولاتطلب!
"ملعون أبو
الفقر"، الذى جعل من فول مصر وعدسها وبصلها "أملة" لا يقدر عليها إلا من
صلح حاله من فقراء مصر وأكرمه الله بدخل يربو قليلا على العشرة جنيهات
يوميًا.
"ملعون أبو الفقر"، الذى جعل أطفالا فى عمر السابعة يرتدون ملابس رثة صيفية فى هذا البرد القارس!
نعم.. "ملعون أبو الفقر" يا مصر وملعون أبو كل "حرامى" استحل خيراتك وتاجر
فيها وترك أهله يأكلون جوعهم وغرته الدنيا وتناسى يومًا تشخص فيه الأبصار
لصاحب الأرزاق ومقسمها.نعم.. "ملعون أبو الفقر" قبل الثورة وبعد الثورة..
لا أعلن عصيانى على "الرضا"، ولكنى أصرخ بما اعترى الفؤاد من مرار حينما
أرى أهلى فى الوطن يتألمون.. يصرخون فى صمت وصبر عجيب لحكومة لا تسمع ولا
ترى وبرلمان علا صوت تصفيقه فوق صوت أنات شعبه المكتومة.نعم أعلن يأسى
وعصيانى على صمتى.. نعم ألعن الفقر والظروف.. نعم أحس أوجاع الألم حينما
يجحد الأشقاء ويرفلوا فى السعادة والكرنفالات بينما من ربت وسهرت وعلمت
وداوت تئن من الوجع.
نعم، أنا المصرى لم أعد أسخر من عجزى ولا أطلق
النكات على أحزانى لأنى أحس وجعى وحدى، فلم تشعر بى يومًا حكومتى ولا
أشقائى وإنما تحملتها وحدى فذاك اليوم شأنى أن أغضب لنفسى ولأعتزلكم مليا
لأعيد حساباتى ثم أعود.. لا أعلم ملامح عودتى كيف تكون، لا أعلم إن كنت
سأعود مرتديا جلبابا ومطلق اللحى أم متحررا من فرض حجاب.. لا أعلم فى أى
هيئة سأعود وحقا لا آبه ولكنى حتما عائد لأقتل أبا الفقر الذى لعنته طويلا.