-سبحانه- الدنيا فانية,
وكل نعيم فيها زائل, وأما الآخرة فنعيماً لا ينفد ولا يزول؛ حتى يتطلع
الإنسان لما هو أبقى وأشمل وأدوم، فالله -عز وجل- خير وأبقى، وما ابتغي به
وجه تعالى فهو الباقي، وأما نعيم الدنيا فلا محال زائل.
ولقد أمر
-سبحانه- المؤمنين بأن
تتعلق قلوبهم بالآخرة الباقية، وألا تغرهم الدنيا الفانية بنسيان لحظات
فراقهم لها أو فراقها هي لهم (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (فاطر:5)
ولقد كان من
دعاءه --: (وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع)، ففيه انتباه
القلب لحقيقة نعيم الدنيا (مَا عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)(النحل:96)، إذ لكل شيء فيها نهاية
ولابد وأن يزول، من نفس أو مال أو أهل أو ولد أو ملك أو رياسة، ولو أستحضر
المرء نهاية الحياة لمن سبقه عَلِمَ أنه قادم لنفس الأجل المحتوم ولابد،
فإما أن يزول عنه النعيم وهو في الدنيا, أو يفارق هو الدنيا بأسرها إلى
باطن الأرض.
لذا فقد جعل -سبحانه- همة المؤمن
في
طلب النعيم الذي لا ينفد، والذي يجد المؤمن بدايته في هذه الدنيا بقربه من
الله -سبحانه-، وإذا وصل إلى دار السلام وجد حقيقته بحذافيرها كاملة غير
منقوصة في جنة الخلد عند حبيبه ومولاه.
البداية بأن يذوق
طعم حلاوة الإيمان
والعبادة وما فطر عليه من الحنيفية -الميل إلى الله- قال -تعالى-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(الروم: من الآية30)، فالقلوب
فطرت على الميل والاشتياق إليه -عز وجل-, وعلى أن حاجتها لذلك أشد من حاجة
البدن للماء والهواء والطعام, وغير ذلك مما يطلبه الناس ويتطلعون إليه من
شهوة الجنس وجمع المال والرياسة.
البداية بأن يجد
اللهَ -عز وجل- ويجد
الطريق الموصل إليه، وأن يدرك حقيقة هدفه في الحياة ولماذا أوجده الله،
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا
لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات:56)،
وبأن يرى هذا الكون الواسع من حوله -والذي حقيقته أنه كخردلة في كف
الرحمن- صغيراً مكاناً وزماناً وأن الله هو العلى الكبير، ويرى الجنة التي
أعدت للمؤمن كعرض السموات والأرض، ويرى هذا الأبد الذي أعده -عز وجل-
لسعادته فيها وأنه بلا نهاية، وأن نصيب من الدنيا بالنسبة له يساوى صفر،
فعندها لن ينال من شهوات الدنيا ولذاتها الفانية الا ما كان عونا له على
الطاعة وعلى الوصول لهذا النعيم الذي لا ينفد.
والقلب لا يستغنى
عن ميله إلى الله
أبداً؛ وإلا مات، فأكثر الناس تموت قلوبهم في هذه الدنيا لإعراضهم عن ذكر
الله وقربه وعبادته، فلا تزال قلوبهم تتألم ولا يدرون سبب الضنك والشقاء (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124)، حتى تموت القلوب وربما تعفنت. (أَوَمَنْ
كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام:122)،
(وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ
إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي
الْقُبُورِ) (فاطر:22)،
فتصبح الأبدان
قبور القلوب وتحبس
القلوب عن الانطلاق لفضاء معرفة الله وتوحيده وعبادته, وعند ذوق حلاوة
الإيمان والتي هي بداية هذا النعيم الذي لا ينفذ.
تلك الحلاوة أدركها بعض من لا
يؤمن:
كهرقل لما سأل أبا سفيان عن المؤمنين هل يرتد أحد منهم عن دينه " قال: لا.
فقال: كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشة القلوب.
فلو امتزج القلب
بالإيمان وجد نعيماً
آخر لا يعرفه أكثر الناس، وإن ظنوا السعادة في أنوع الشهوات الدنيوية
(ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً
وبمحمد -- نبياً)،
(ثلاثة من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله
ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه الا لله، وان يكره أن
يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)، (وَلَكِنَّ
اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)(الحجرات:
من الآية7)
وأما الدنيا:
فنعيمها مشوب بالنغص
والضيق والكدر. وشهواتها إنما هي سكر يعمى القلب ألمه مدة وجيزة بالغفلة
التي تحصل للإنسان عندما ينالها، تماماً كفعل المخدرات بعقل وقلب الإنسان
إذ تشعره بأنه ملك للدنيا وكل ما يريده، فإذا أفاق فكأنه كان طائر فوقع
وارتطم بالأرض, فلا يجد مفراً من تناول المزيد في هرب دائم من حياته
المؤلمة، وهكذا حتى تدمر حياته بالكلية وربما حياة من حوله، بل إن سكر
الشهوات لأشد من الخمر والمخدرات (لَعَمْرُكَ
إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر:72)، (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى
حِينٍ)(المؤمنون:54)،
فسكر الخمر عدة ساعات وأما سكر الشهوات فربما
يبقى مدى الحياة لا يفيق منه إلا على الموت أو الألم والعذاب السرمدي.
وأما لذة النعيم
الذي لا ينفد فلا
تشابهها لذة، بل لقد ذاق بعض السلف بدايتها فقال "انه لتمر على القلب لحظات
يقول فيها لو أن أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم لفي عيش طيب"، فما بال
لذة الجنة إذن، فإنها أضعاف مضاعفة، فنعيم المؤمنين فيها بالله -تعالى- أتم
نعيم, والنظر لوجهه -عز وجل- فيها أعظم نعيم (وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)(القيامة: 22-23)،
وسماع كلام الرب وسلامه فيها أعظم ما تسمعه آذانهم (سَلامٌ
قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (يّـس:58)، والشهود برضا الله عنهم
فيحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً لهو أعظم نعيم يجدونه بقلوبهم، كما
يقول -سبحانه- لأهل الجنة بعد دخولها (هل رضيتم؟
فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟!
فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون؟ يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟
فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً)
ففي الجنة يجدون
هذا النعيم بلا حد
ولا انقطاع، بل في ازدياد دائم (لَهُمْ مَا
يَشَاءُونَ
فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (قّ:35)، كل يوم يرقون لمنازل أعلي
وأقرب إلى مولاهم لم تكن لهم من قبل، ولا يزال هذا النعيم ممتداً متسعاً
يوماً بعد يوم بلا نهاية،لأنه -سبحانه- هو العلي الكبير، ولأنه -عز وجل-
الشكور الذي يجزي الثواب الجزيل على العمل القليل.
بداية هذا النعيم
هي التي من لا
يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وهى جنة الأنس بالله وبذكره -عز وجل-، فلقد
جاءت الآيات متصلة(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا
اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ
الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً
كَرِيماً)(الأحزاب: 41-44)، فذكره
-عز وجل- وتسبيحه وطاعته يجلب محبته, ويشهد قلب المؤمن من النعيم ما لا
يشهده غيره، إذ يرفع إلى الله عمله وذكره مع أعمال العباد، عمل الليل قبل
عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، ويسأل -سبحانه- ملائكته عن عبادة
المؤمنين وهو أعلم بهم، وذلك ليثني الملائكة عليهم ويدعون لهم وليثنى الرب
عليهم، فصلاة الملائكة ثناؤهم ودعاؤهم وصلاته -سبحانه- هي ثناؤه وذكره لهم
في الملأ الأعلى في سماواته عند ملائكته وأرواح النبيين والمؤمنين (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في
ملأ خير منه)، (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ )فإذا
شهد القلب ذلك نال من النعيم والراحة واللذة القدر العظيم، فالمرء يجد
راحة عظيمة إذا أحبه الناس وأثنوا عليه ودعوا لهم بالخير، فما باله لو شهد
هذا وعلم أن الله -تعالى- جعل له ملائكته تستغفر له، بل خاصة الملائكة وهم
حملة العرش (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ
وَمَنْ
حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ
رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ
الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( وَقِهِمُ
السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (غافر
7-9)، وكلما ذكر المؤمن
ربه وتاب إليه وأتبع سبيله سخرهم -عز وجل- ليدعوا له ويستغفروا له ولأهله
وآبائه وأزواجه وذريته، فيا لها من سعادة ويا له من نعيم.
وبصلاة الله
والملائكة ينفتح القلب
ويخرج من الظلمات إلى النور، من الشهوات والطباع والأخلاق الفاسدة التي
تظلم القلب، وتجعله في الدنيا كقلوب الكفرة والفجرة والمجرمين لا يعرفون
معروفاً ولا ينكرون منكراً الا ما أشرب من هواهم فيشقون بذالك أعظم الشقاء،
وتخرجه كذالك من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، تلك الدنيا التي يتنافس عليها
الناس لضيقها، فهي لا تسعهم ليكونوا لها ملوكا، ومن ملكها ملك جزءاً منها
ملكاً مجازياً لمدة محدودة، وأما الجنة، فأهلها كلهم ملوك, وأقلهم له مثل
الدنيا من لدن آدم حتى يوم القيامة وعشر أمثالها خلده فيها أبدا (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً
كَبِيراً)(الإنسان:20)، ورغم ذلك لا تنافس فيها ولا شحناء (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى
سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر:47)،
وإذا انفتح القلب على
هذه المعاني نال بداية هذا النعيم في الدنيا، ثم
نال التمام في الجنة في الآخرة يوم يلقى ربه وما أعد له من الأجر الكريم
فيها (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) (الأحزاب:44)، ولا يوقظ
القلب لهذه المعاني الا الحياة مع كتاب الله, وإلا فأكثر الناس في غفلة لا
يشعرون بشيء من هذا أصلاً, بل ربما لا يدركون حتى وجود الملائكة، ولا
يستحضرون إلا هذه الدائرة الضيقة من الأرض التي يعيشون عليها وما حولها من
شهوات، مما ينعكس في حياتهم واهتماماتهم ونزاعتهم، مما يشعر المؤمن بالغربة
في هذه الدنيا, وربما وجد أنواعاً من الاضطهاد والاستضعاف أو الإبعاد
والاستغراب والتعجب من سلوكه. ولكن من وجده من بداية هذا النعيم من لذة
محبة الله وذكره ومعرفته والشوق إليه والتعلق بوعده والخوف من وعيده وقربه
من ربه -سبحانه- كل هذا يشعره بأن الكون كله معه يسبح لله -تعالى-, وأن
هؤلاء هم البعيدون المطرودون قد اختاروا لأنفسهم سلوكاً غير سائر المخلوقات
غير السموات والأرضيين اللاتي قالتا (أتينا
طائعين)،غير
الطير والجماد التي تسبح بحمده (وإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(الإسراء:
من الآية44) حتى غير الحجارة التي خشعت لله
-سبحانه- (وَإِنَّ
مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه)
وإذا حصلت بداية
هذا النعيم للمؤمن،
هانت عليه الدنيا بأسرها فلم ينافس في عزها، ولم يجزع من ذلها، ولكانت جنته
في قلبه. كما قال بعض السلف (ما يفعل أعدائي بي, أنا جنتي معي، بستاني في
صدري، وان سجني خلوة، وقتلي شهادة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله، ونفيي
سياحة"
وقد يبتلى الله عبده المؤمن ليعطيه
من بداية هذا النعيم الذي لا ينفذ : فيقدر عليه ما يحزنه ليلجئه إليه "فيجد
في لجئه وتضرعه له -سبحانه- أفضل مما حزن عليه، وأوسع مما كان يريد تحصله
من أمر الدنيا أو حتى من أمر التمكين، حتى وان طال زمن الإجابة، فالبعض قد
يقول منذ كم ندعو للمسلمين والأمر يزداد سوءاً ونحو ذلك مما يقال :فالشعور
بالفقر إلى الله ألا ملجأ ونصير إلا هو، وأنه نعم المولى ونعم النصير لأنفع
للمؤمنين مما لو فتحت عليهم الدنيا بأسرها.
المؤمن معه كنز وبيده مفتاحه، إن
استعمل المفتاح فاز وإلا سقط في متاهة هذا الكنز، والكنز هو ما أعده الله
له من بلاء وفى عافيته من بداية هذا النعيم الذي لا ينفد إذا لجأ وتضرع
إليه واستغنى قلبه بالله عن الدنيا، بحضور معاني العبودية التي أمر بها
-سبحانه- من كمال الحب مع كمال الذل، فلحظة واحدة من حب الله تغنيه عن كل
مال وأهل وسلطان، وأي منزلة يرجوها عند الناس، ولحظة واحدة من تذلله وخضوعه
لله -عز وجل- تكفيه من نعيم الدنيا، وشعوره بثناء الدنيا، وشعوره بثناء
الله عليه وذكره له في نفسه وفى الملأ الأعلى, وحب الملائكة له واستغفارها
له، بل وجميع الخلق حتى الحيتان والطير، كل هذا يكفيه ويغنيه عما يطلبه
الناس والملوك والكبراء من أمور لا تقارن بذلك من ثناء ظاهري أو أشارة لهم
بالبنان أو مديح زائف يعلمون معه تماماً كره النفس وبغضهم لهم، ورغم ذلك
يسفكون لأجلهم الدماء وينفقون الأموال ويسهرون الليل والنهار ويضحون
براحتهم ولا ينامون الا في رعب وخوف.
وأما المؤمن فيجد
حباً وثناء صادقاً
من الكون كله حيث يوضع لهم القبول في الأرض بعد أن ينادي بحبه في أهل
السماء، حتى إن أرواح المؤمنين والشهداء لتنظره وتدعو له بالثبات حتى يلحق
بهم (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا
بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(آل
عمران: من الآية170)
وإن
أعظم الشقاء،أن يطرد
العبد ويلعن ويبعد عن الله ،كإبليس عليه لعنة الله (فَاخْرُجْ
مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ
الدِّينِ) (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)،
فيبعد الله قلب العبد عنه في هذه الدنيا، فتتشبه روحه بأرواح الشياطين
وتتعانق معها، وتعيش بطريقتها تريد العلو والفساد في الأرض، فيشقى أعظم
الشقاء, حتى لو علا بطغيانه للحظات أو حتى سنين علي المسلمين وانتهك
حرماتهم، فهو في رعب دائم لا يدري سببه، فيشقى ولا يحصل له إلا البغض
والكراهية من جميع الخلق ومن رب الخلق، ثم في الآخرة يبعد عن ربه في جهنم
(كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَمَحْجُوبُونَ)
(المطففين:15)، خالدا في
العذاب والألم السرمدي (فَذُوقُوا
فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَاباً)
(النبأ:30)
لذا فقد
جعل -سبحانه- في الدنيا
دليلا علي نعيم الآخرة، ينال منه المؤمن بقدر قربه منه -سبحانه- سائلاً ربه
نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، ثم يجد من النعيم أضعاف ذلك في برزخه ثم
في آخرته حين يلقي حبيبه ومولاه يجد هذا النعيم بحذافيره كاملاً غير منقوص،
فاللهم إنا نسألك نعيماً لا ينفد،
وقرة عين لا تنقطع