عن هذا السؤال يجيبنا ماكس غالو في أربعة أجزاء ضخمة لا تستطيع أن تتركها حتى تقرأها كلها. نعم كلها! فالرجل مشهور بأسلوبه المشوق الذي يخلط بين الحقيقة والخيال ويكتب التاريخ على هيئة رواية بوليسية تقريبا. إنها رواية ممتعة، يتخللها الترقب والقلق الذي يشد الأعصاب شدا، كما أنها مليئة بالنوادر الصغيرة والحكايات الشخصية عن الكبار والعظماء. وعندئذ تحبس أنفاسك قبل أن تصل إلى نهاية القصة في كل مرة. وماكس غالو هو عضو الأكاديمية الفرنسية وشخصية عامة مهمة في فرنسا. وهو يكتب يوميا عشر ساعات على الأقل. من هنا غزارة إنتاجه. وقد روى لنا بشكل ساحر وفتان قصة حياة العظماء من أمثال فيكتور هيغو وشارل ديغول وآخرين عديدين. والآن يتحدث عن بطل الأبطال في التاريخ الفرنسي: نابليون بونابرت.
إنه يقدم لنا صورة ذاتية وموضوعية عن هذا الفاتح الكبير الذي شغل أوروبا والعالم كله بعد الثورة الفرنسية. في الجزء الأول يتحدث لنا عن ولادة نابليون في جزيرة كورسيكا عام 1769، ثم عن سفره إلى فرنسا برفقة والده لإكمال دراساته، ثم عن دخوله إلى الكلية العسكرية في باريس، الخ.
وهكذا يرافق المؤلف كل مراحل حياته وصعوده نحو المجد مرحلة بعد مرحلة حتى يصل إلى ختام هذه الحياة المليئة بالفتوحات والأمجاد. يذكرنا ماكس غالو بأن الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789 دخلت مرحلة الإرهاب الأكبر بدءا من عام 1792 وأصبحت تأكل أبناءها كما يقال. وهكذا راحت كل فئة تصفي الفئات الأخرى ما إن تصل إلى السلطة. فروبسبيير، قائد الثورة، صفّى خصومه أو قطع رؤوسهم تحت المقصلة. ولكنه سرعان ما صُفّي هو الآخر بدوره وقطعت رأسه تحت نفس المقصلة أيضا. وعندئذ دخلت فرنسا في حرب أهلية طاحنة لا تبقي ولا تذر. ثم جاء نابليون أخيرا لكي يضع حدا لهذه الفوضى الثورية العارمة أو ما ندعوه نحن الآن بالفوضى الخلاقة. وهي تلك التي تنتهي بنظام جديد وذلك على عكس الفوضى المدمرة التي لا تؤدي إلا إلى الدمار والخراب. ولكنه قبل أن يتوصل إلى ذلك كان شخصا ضائعا لا يعرف ماذا يفعل بحياته! بل وأوشك على الانتحار أكثر من مرة!
يقول المؤلف: لقد وصل نابليون إلى باريس عام 1795 وهو جنرال مسرح من الجيش ولكنه كان نكرة في باريس ولا أحد يعرفه، وكان يتسكع في الشوارع طيلة النهار بلا عمل ولا أمل. بل وفكر في الانتحار في بعض اللحظات كحل لمشكلته الشخصية. ويقال بأنه أشرف على الجوع في تلك الفترة وكان نحيلا ضامرا بسبب قلة التغذية.
ثم حصل على عمل متواضع في أحد المكاتب لكي يكسب رزقه. ولكن هذا الوضع البائس لم يدم طويلا، فقد تدخل التاريخ لكي يقلب الأمور رأسا على عقب كما يحصل عادة مع العظماء. على نقرة صغيرة يقلب التاريخ في هذه الجهة أو تلك. وعموما فإن العظماء يكونون على موعد مع القدر. كيف حصل ذلك؟ عندما حاصرت القوى المعادية الثورة وزعماءها الكبار لجأوا إليه وطلبوا منه أن يستلم قيادة الفرقة العسكرية المكلفة بالدفاع عن النظام الثوري. وقبل بعد تردد. وهكذا نجح حيث فشل الآخرون، فقد استطاع القضاء على القوى الملكية المتمردة على الثورة الفرنسية بعد أن واجهها بكل شجاعة من حي إلى حي ومن شارع إلى شارع في العاصمة باريس. وبعد أن حقق هذا الانتصار عينوه قائدا لجيش الداخل وحاميا للثورة والنظام الجمهوري الوليد.
وبعدئذ أخذ نجم نابليون يلمع ويصعد في سماء الحياة الفرنسية. وتعرف عندئذ على امرأة تدعى جوزفين وأحبها كثيرا وخانته أكثر.. ثم عينوه بعدئذ على رأس الحملة العسكرية المتوجهة لفتح إيطاليا. وهناك أبلى بلاء حسنا إلى درجة أن بعض المؤرخين قال عنه بأنه أكبر فاتح في التاريخ بعد الاسكندر المقدوني.
وأثبت نابليون عندئذ مهارته في قيادة المعارك إلى درجة أذهلت العدو قبل الصديق. فقد كان مخططا استراتيجيا لا يشق له غبار. وعندما عاد من حملة إيطاليا وأكاليل المجد تحيط به من كل الجهات راح القادة ينحنون أمامه من عسكريين ومدنيين. وعلى الرغم من أنه كان قصير القامة فإن هيبته الشخصية كانت تطغى على الجميع. ويقال بأن كبار قادة الجيش الفرنسي كانوا يخفضون بصرهم عندما ينظر إليهم ويحدق فيهم وجها لوجه من تحت إلى فوق. فلا أحد يتجرأ أن يرفع رأسه أمامه.
ولكن بعد عودته من إيطاليا ظافرا منتصرا خافت القيادة السياسية على نفسها منه. فقررت إبعاده إلى الخارج للتخلص منه والمحافظة على سلطتها وامتيازاتها، وأقنعته بقيادة حملة عسكرية كبيرة على مصر.
وكانت القيادة تعتقد بأنه سيموت هناك في تلك البلاد البعيدة ولن يعود منها سالما، وهكذا تصفو لهؤلاء الصغار الأمور وتبقى السلطة في أيديهم. وبالفعل فقد سار على رأس عشرات السفن الحربية لفتح مصر ليس من أجلها فقط وإنما من أجل قطع طريق الهند على إنجلترا، العدو اللدود لفرنسا. وقد اصطحب نابليون معه في حملته الكبرى هذه عشرات العلماء والمهندسين وليس فقط آلاف الجنود والعسكريين. وقد وطأت قدمه لأول مرة أرض مصر في الإسكندرية يوم الثاني من يوليو (تموز) عام 1798.
ويبدو أن المدينة استسلمت له دون مقاومة تقريبا وحتى دون طلقة واحدة. وكانت مدينة الإسكندرية قد أصبحت بائسة لا تعد أكثر من ستة آلاف نسمة. لم تعد كما كانت سابقا عاصمة الدنيا والمشرق كله، لم تعد عاصمة العلم والحضارة والفلسفة. كانت قد أصبحت لا شيء تقريبا في عصر الانحطاط والتردي الكامل.
ومن هناك سار نابليون بجيشه إلى القاهرة لفتحها، ولم يتخذ الطريق المحاذي للبحر لكيلا يراه الأسطول الإنجليزي الذي يلاحقه وإنما راح يغذ السير في الصحراء البعيدة عن النيل والبحر. وعندئذ فوجئ جنوده بحرارة الجو إلى درجة أنهم اعتقدوا بدخول نار جهنم. ومات منهم عدد لا يستهان به أثناء الطريق، ولكن عندما اقتربوا من القاهرة وظهر لهم النيل كالبحر الواسع راحوا يرمون بأنفسهم فيه.
وعندما ظهرت الجيزة والأهرامات لم يصدق الفرنسيون أعينهم. وسألوا ما هذا؟ فقال لهم نابليون: هذه هي أهرامات مصر، إحدى عجائب الدنيا السبع، إنها قبور الفراعنة. واستغربوا كيف يمكن لهذه الجبال أن تكون قبورا. ثم صرخ نابليون بعبارته الشهيرة: أيها الجنود من أعالي هذه الأهرامات تنظر إليكم عشرات القرون.. أربعون قرنا من التاريخ تحدق بكم الآن! فذهبت مثلا.
ثم كانت المواجهة الحاسمة مع جيش المماليك واستطاع نابليون هنا أيضا أن ينتصر وأن يدخل القاهرة فاتحا وعمره لا يتجاوز الثلاثين عاما. وبعدئذ بسنوات طويلة قال بونابرت بأن إقامته في مصر كانت أجمل لحظات حياته. قال ذلك وهو يتحسر بعد أن أطبق عليه الانجليز وأصبح أسيرا، سجينا، في جزيرة سانت هيلانة الشهيرة.
نقول ذلك على الرغم من أنه لم يبق في مصر إلا سنة ونصف. بعدئذ عاد إلى باريس لإكمال مهمته، أي للاستيلاء على السلطة كليا وفتح أوروبا. وقد استطاع تحييد كل خصومه من السياسيين الباريسيين وتنصيب نفسه إمبراطورا على الفرنسيين عام 1804. وعندئذ راح ينشئ فرنسا الجديدة بكل مؤسساتها وقوانينها.
فهو الذي أسس بنك فرنسا لأول مرة في التاريخ، وهو الذي قسم البلاد إلى محافظات مختلفة لكي تسهل إدارتها وتنظيم أمورها، وهو الذي شق الشوارع العريضة كشارع الجيش الكبير، وهو الذي بنى قوس النصر الشهير الذي يقع على رأس أجمل شارع في العالم أي الشانزليزيه، وهو الذي سنّ القوانين المدنية الجديدة تحت اسم: قانون نابليون.
وفي ذات الوقت راح يقوم بالحملات العسكرية الكبرى على أوروبا لكي يخضع بلدانها الواحدة بعد الأخرى، وحقق عندئذ انتصارات مذهلة ضد النمساويين والألمان والإنجليز والروس، الخ. واحتل إسبانيا أيضا. وفي لحظة من اللحظات كان يسيطر على كل أوروبا تقريبا. العالم كله كان بين يديه، رهن إشارته..
وهكذا نشر أفكار الثورة الفرنسية في كل أنحاء القارة، وهز العروش الملكية المتخلفة والأنظمة الإقطاعية المستبدة. وقد رحب به فلاسفة الألمان وعلى رأسهم هيغل على الرغم من أنه كان يغزو بلاده! ولكنه رأى فيه الأمل الوحيد لإسقاط النظام الإقطاعي الأصولي القديم وإحلال النظام الحديث الحر محله. وقد شبهه هيغل مرة بأنه يجسّد روح العالم أو جوهر الحرية في شخصه. وأطلق هذه العبارة: رأيت الإمبراطور، روح العالم، على حصان! ولكن الأنظمة الرجعية تآمرت عليه وتحالفت ضده واستطاعت في نهاية المطاف أن تقضي عليه. ولكن الأفكار التي حملها إلى العالم لم تمت بموته وإنما سرعان ما عادت إلى الساحة وانتصرت في نهاية المطاف. وهكذا انتصر نابليون مرة أخرى بعد موته.
لن أدخل هنا في تفاصيل المقارنة بين الانتفاضات العربية الراهنة والثورة الفرنسية وإنما سأقول فقط ما يلي: إذا استطاعت هذه الفوضى العربية الخلاقة أن تجدد العرب وتنفض عن كاهلهم غبار القرون وأنظمة الاستبداد والتخلف فسوف يولد العرب من جديد ويستعيدون مكانتهم بين الأمم.