ظاهرة الاتّباع الأعمى
كثيراً ما تُصاب النفوس بآفات خطيرة من شأنها أن تؤثِّر سلباً على سلوكها وأفكارها وموازينها. ولعلّ أخطر هذه الآفات أو الأمراض: ظاهرة الاتّباع الأعمى الذي لا ينمّ إلاّ عن تعصّب لكبير من الكبراء أو أحد الزعماء أو لمسؤول أو لشخص فلان أو لرأي شيخ بغضِّ النظر عن مدى استقامة هذا الشيخ أو مدى صواب رأي ذاك الزعيم. وحتى العامل للإسلام قد يُصاب بهذا المرض دون أن يدري بالرغم من إصراره على ألاّ يوصف بالتعصب أو التبعية العمياء، ففي هذه الحالة يكون المرض عنده في بدايته وبالتالي فمن السهل استئصاله من نفسه قبل أن يستشري. لذا فسيجد عموم المسلمين وحتى العاملون للإسلام، رجالاً ونساءً، بين ثنايا هذا الموضوع بحثاً مفصَّلاً عن خطورة هذه الظاهرة وسوء مآلها تماماً كما وصفها القرآن الكريم.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {ومن الناس من يتّخذُ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحبِّ الله والذين أمنوا أشدُّ حُبّاً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرَوْن العذاب أنّ القوّةَ لله جميعاً وأنّ اللهَ شديدُ العذاب * إذ تبرَّأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتُّبعوا ورأَوْا العذابَ وتقطَّعت بهم الأسباب * وقال الذين اتَّبعوا لو أنّ لنا كَرّةً فنتبرّأ منهم كما تبرَّءوا منّا كذلك يُريهم اللهُ أعمالَهم حَسَرات عليهم وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 165 ـ 167].
فالآيات الكريمة تجسّد الصورة الحقيقية لما عليه هذه الفئة من ضلالٍ ناتج عن اتّباعهم الأعمى لبشرٍ أمثالِهِمُ وحبّهم لهم كحبّ الله، وتصوِّر لنا المصير الأليم الذي يلقهاه هؤلاء وما يكونون عليه من ندم وحسَرات عند ملاقاة مصيرهم المشؤوم.
إذاً، فالتبعية هي ظاهرة خطيرة ومشكلة رافقت البشرية منذ ظهورها، وقد كانت عبر الأزمنة تختلف أشكالاً وأنواعاً في التابع والمتبوع، ولكنّ الملاحظ لسيَر الأمم في التاريخ من خلال العرض القرآني أنّ هذه الأنواع وهذه الأشكال تنقسم في حقيقتها إلى معسكَرَيْن اثنَيْن:
الأول: أناسٌ يتّبعون بعضهم ويتعاونون فيما بينهم لتبليغ دين الله والدعوة إليه وهم الأنبياء والرُّسُل ومَن سار على نهجهم. وفي الجهة المقابلة أتباعٌ ومتبوعون يقودهم إبليس لمحاربة الحقّ ونشر الفساد في الأرض، وإن تمثّلت هذه القيادة يوماً في زعيم من البشر أو صنم من الحجر ولكنها دائماً شيطانية، تسخِّر جميع إمكاناتها من أجل دعوة الناس بمختلف الوسائل (ترهيبية وترغيبية) لإجبارهم على السير في رَكْبها ودعم مسيرتها.
(لقد كانوا على عهد المخاطَبين بهذه الآيات أحجاراً وأشجاراً، أو نجوماً وكواكب، أو ملائكة وشياطين... وهم في كل عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو إشارات أو اعتبارات ... ولكنها شِرْك خفي أو ظاهر، إذا ذُكِرت إلى جانب اسم الله، وإذا أشركها المرء في قلبه مع حبّ الله. فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفردَ هذه الأنداد بالحُبِّ الذي لا يكون إلا لله؟
لذا نجد أنّ العلامة الفارقة التي تميِّز المؤمنين عمّن دونهم أنهم لا يحبون شيئاً كحبهم لله، لا أنفسَهم ولا سواهم، لا أشخاص ولا اعتبارات ولا شارات، ولا قيماً من قيَم هذه الأرض التي يتكالب عليها معظم الناس إلا مَن رحم ربي).
ففي هذا السياق يصفهم ربّهم بأنهم أشدُّ حبّاً له من أنفسهم وأهليهم والناس أجمعين: {والذين آمنوا أشدُّ حباً لله}، فحبّهم لبارئهم حبٌّ مُطلقٌ من كل موازنة، ومن كل قيد. هم أشدّ حباً لله من كل حبّ يتّجهون به إلى سواه. والتعبير هنا بالحُب تعبير جميل فضلاً عن كونه تعبيراً صادقاً. فالصلة بين المؤمن الحقّ وبين الله هي صلة الحب، صلة الوشيجة القلبية والتجاذب الروحي، صلة الموَدّة والقُربى، صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحُب المشرق الوَدود.
تلك الصورة المشرقة للقلب المؤمن المتجرِّد إلاّ من حبّ الله، تقابلها الصورة المظلمة التي أشرك أصحابها مع الله آخرين، أولئك الذين اتّخذوا من دون الله أنداداً، فظلموا الحق، وظلموا أنفسهم... ولو مدّوا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد، لو تطلّعوا ببصائرهم إلى يوم يرَوْن العذاب الذي ينتظر الظالمين! لو أبصروا بعين البصيرة لرأوا {أنّ القوة لله جميعاً} فلا شركاء ولا أنداد {وأنّ الله شديد العذاب}.
لو يَرْون كيف تبرّأ المتبوعون من التابعين، ورأَوْا العذاب، فتقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب، وانشغل كلٌّ بنفسه تابعاً كان أم متبوعاً، وسقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها اتباعاً أعمى وعجزت عن وقاية أنفسها فضلاً عن وقاية تابعيها وظهرت حقيق الألوهية الواحدة والقدرة الواحدة وكَذِب القيادات الضالة وضعفها وعجزها أمام الله سبحانه وأمام العذاب.
وفي هذا المقام يتجلّى الندم لدى هؤلاء بأشقى مظاهره وأتعس مراحله: {وقال الذين اتَّبعوا لو أنّ لنا كَرّةً فنتبرأَ منهم كما تبرأوا منا}... فتبدّى الحنق والغيظ من التابعين المخدوعين في القيادات الضالّة، وتمنَّوْا لو يَرُدُّون لهم الجميل! لو يعودون إلى الأرض فيتبرّأوا من تبَعيّتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة في حقيقتها، التي خدعتهم ثم تبرأت منهم أمام العذاب!!
إنه لمشهد مؤثِّر، مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين، بين المحبين والمحبوبين، وهنا يجيء التقرير الإلهي المؤلم: {كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.
وفي هذا السياق، لا بدّ لنا من تحليل نفسية وعقلية كل من التابع والمتبوع، حتى تتأتّى لنا الأسباب الكامنة وراء ضلالهم عن النهج القويم.
فمن أهم أسباب تبعيّة الأتباع للمتبوعين:
خوفهم على أموالهم وأرزاقهم وممتلكاتهم.
خوفهم على أعمارهم وحياتهم ودنياهم.
خوفهم من بطش المتبوعين وأذاهم.
فِسقْهم وانحرافهم وابتعادهم عن المنهج الرباني.
رغبتهم في الدنيا وإقبالهم عليها وحرصهم على ملذّاتها.
نسيانهم الآخرة.
حرصهم على التزلف والتقرُّب للسادة والكُبَراء المتبوعين.
هوانهم على أنفسهم ووأْدهم لشخصياتهم وإراداتهم وحرّياتهم.
أما أهم الأسباب الكامنة وراء استكبار المتبوعين وغطرستهم وإذلالهم لأتباعهم فإنها تتجلى في:
انتفاش نفسياتهم وانتفاخها.
استحواذ الشيطان عليهم.
كفرهم بالله أو نسيانهم له وتعدِّيهم على حقّ الله في العبادة والإستعانة والحكم والتشريع.
عدم إيمانهم بالآخرة.
انحرافهم وانكبابهم على المعاصي والذنوب.
اغترارهم بما جعل الله تحت أيديهم من مظاهر المال والجاه والسُّلطان.
رضوخ أتباعهم لهم ورضاهم بما يمارسه متبوعوهم من استخفاف وازدراء واستعباد، وتنازل الأتْباع عن وجودهم وشخصياتهم وآرائهم.
وبما أنّ الاتّباع الأعمى مُنْزَلقة خطير وعاقبته وخيمة، فالأجدر بكل مسلم فضلاً عن كل عامل للإسلام أن يُبصر بتجرُّد ليتبيّن حقيقة الطريق الذي يسير عليه. وقد يبدأ الاتّباع بالتعصُّب لكلمة أو رأي مخالف للكتاب والسُّنّة بشكل لا يُخرِج من الدين، ولكن لا يجوز التهاون بذلك أبداً فلعله يبدأ بكلمة وينتهي والعياذ بالله إلى ما يؤول إليه حال مَن خَلّدهم الله في نار جهنّم.
لذا فإنّ المؤمن لا بدّ له أن يستقي العِبَر من هذه الآيات الكريمة والتي منها:
حبّ المؤمن لله ولشريعته حباً مُطلقاً لا يوازيه شيء من أشياء الدنيا.
على المؤمن أن يتّبع قيادة مؤمنة تقوده إلى طاعة الله ومرضاته.
على المؤمن أن يتبرّأ من القيادات الضالّة التي تقوده إلى معصية الله مهما اختلفت أشكالها وأنواعها.
العمل على إيجاد قيادة مؤمنة مُحبة لله عاملة على تطبيق شريعته تقود البشرية إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
النهاية السيئة لكل (تابع ومتبوع) على غير شرع الله.
عزة المؤمن بإيمانه بالله وعبوديته له تجعله يترفّع على هذه القيادات الضالة بنظرتها لحقيقة وجودها وما تملكه من إمكانات بشرية ومادية وأنه من رحمته لها وشفقته عليها يعمل على تقويم اعوجاجها وتصحيح مفاهيمها وإقصائها لشريعة ربها.
من أهم أسباب وقاية المؤمن من اتّباع القيادات الضالة:
اتصاله الدائم بالله وذلك من خلال العبادة والذِّكر وقراءة القرآن والتفكر في أحوال الأمم السابقة ومصيرها.
نظرته إلى حقيقة مصير هذه القيادات يوم القيامة وذلك من خلال قياس أعمالها على شرع الله.
هذا ما نستشفّه من دروس وعِبَر هذه الآيات الكريمة، وإنّ هذه العِظات لجديرة بأن يُمحِّصها ويستفيد من دِلالاتها كل مَن انحرف عن النهج المستقيم بل ويعمل من الآن على تطبيقها، وعلى المجتمع المسلم أن يتطهّر من هذه الآفة الخطيرة.
{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألْقى السَّمْع وهو شهيد}.