أقول: إي وربّي إنّ لـ ((لا إله إلا الله)) روحًا من لم يحي بها فهو الميت، ومن لم يهتد بها فهو الضّال، ومن لم يستأنس بها فهو المستوحش، أولم تسمع إلى قول الحقّ تبارك وتعالى:
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأنعام : 122 )
وقوله لا إله غيره: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام : 125 ).
وقوله لا ربّ سواه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الزمر : 22 ).
وقوله جلّ في علاه:{الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}(الأنعام : 82 )
إذن أخي - أختي في الله (( لا إله إلا الله)) ليست مجرّد كلمة تقال، أو عبارة تردد على الألسن ـ وإن كان مجرّد التلفظ بها تحصل به عصمة الدم والمال والعرض ـ وذلك أنّ المنافق يقولها، والجاهل بمدلولها ومعناها يقولها، وكثيرا ممن نصبوا العداء لأهل الإسلام وحزبه يلوكون ألسنتهم بإظهارها لا تجاوز تراقيهم.
ولكن هي بمثابة الدّم للبدن، والهواء للأحياء، و الماء للنبات قال تعالى:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(إبراهيم24: 25).
فإذا ما تسرّبت إلى بدن العبد، وسرت في جثمانه، وتمكّنت منه، إلاّ وأعلنها مدويّة بأنّه لا معبود بحقٍّ يستحقُّ أن تُصرف له العبادة إلاّ الله الواحد الأحد الفرد الصمد، فتصبح أقوالُه وأعمالُه، حركاتُه وسكناتُه، قيامُه وقعودُه، يقظتُه ونومُه، أكلُه وشرابُه، ذهابُه وإيابُه لله ربّ العالمين لا شريك له كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام 162: 163 ).
إذا تبيّن ذلك: فيا لله من أقوام يهوِّنون من شأن هذه الكلمة وقدرها، ويرمون المنشغلين بها، وبتقريرها، وبيان مدلولها ونواقضها للناس بالتخلف و التقاعس عن خوض ميادين الفكر ومجالاته، بحجّة أنّ هذه الأخيرة لا يخوضها إلاّ الفحول من أهل الفكر والعقل، أمّا تلكم فهي في متناول الجميع، سهلة المأخذ، لا تستحقّ كلّ هذا الجهد وذاك التفاني، حتّى بلغ الشقاء ببعض المنتسبين إلى العلم ـ زعموا ـ ، أنّه أصبح لا يستسيغ سماع الكلام فيها وفي شروطها ومكمّلاتها(1)، و أَيْمُ الله إنّه ليُخشى على أمثال هؤلاء أن يكون فيهم شبه بمن قال سبحانه فيهم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر : 45 )، ومن قال فيهم: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورا} (الإسراء : 46 ).
والمتأمّل في أحوال هذه الأمّة يعلم يقينا أنّ كثيراً من المسلمين لم يفهم حقيقة مدلول هذه الكلمة، ومقتضياتها، ولوازمها، لذلك تجده يجمع بينها وبين ما ينقضها، فنجد بعض المسلمين يتقرّب إلى الأولياء وإلى القبور والأضرحة، بالقربات والذبح والنذر ويسألهم الشفاء والولد والغوث والمدد، ولا يدري أنّه بذلك قد أتى على هذه الكلمة بالهدم والنقض، وكثيرا من المسلمين عوامّهم خاصّةً يجهل أنّ من لوازم هذه الكلمة تحكيم شريعة الله عزّ وجلّ، والتحاكم إليها والرضا بها، فالحكم والتشريع محض حقّ الله تعالى وفعله، كالخلق والرزق والتدبير، والتحاكم إلى شريعته دون ما سواه من إفراده سبحانه بالعبادة، وهومن مقتضى شهادة أنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما} (النساء : 65 )
إذن فـ((لا إله إلا الله)) غذاء للرّوح، و((لا إله إلا الله))طمأنينة للقلب، و((لا إله إلا الله)) نور للبصر والبصيرة.
ومن أبرز مظاهر هذه الروح، ومن أسمى معانيها، بل هي لبُّها وجوهرُها التي إذا ما خالطت بشاشتُه قلوبَ العباد، وتخلّلت في عروقهم، اهتزّت وربت، وتاقت إلى معبودها، واشتاقت إليه، وتشوّفت إلى الأنس به:
(( هي إظهار الانكسار والافتقار والحاجة إلى الله الواحد القهار، مع كمال الذلّ والمحبة، والإجلال والخضوع ))
ولنلقي نظرة خاطفة على هذه الرّوح وهي متجسّدة في أكملِ عباد الله، وأحبِّهم إليه، وأكرمِهم عليه، وصفوتِه من خلقه، أنبيائِه ورُسُلِه، عليهم أفضل الصلاة و أزكى التسليم، مستلّين ذلك كلّه من كلام ربّنا جلّ في عُلاه، على ما فتح الله به سبحانه، سائلا إيّاه جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به عباده المؤمنين والحمد لله ربّ العالمين.