يد العون، لكن السيف كان دائماً يحصد الأيادى، والعام بأكمله موسم حصاد، حصاد ألسنة نطقت بالحق وأيادٍ حاولت أن تدفع الظلم وبقرة حُلب كل لبنها حتى باتت من الوهن تخرج دما وتتأوه دون ضجيج أو صخب، تتمنى الخلاص وهى ممسكة بآخر أيام الربيع، وفى كل الأيام يموت الناس من الفقر عطشى والماء يُباع.
مبارك الآخر، هو رجل لم يشارك فى الثورة، ولم تستهوه هى، رغم جمالها، ورومانسيتها، ورقتها، ورائحة العطر الفائحة فى كل الأرجاء، ورغم أنه تمنى آلاف الثورات، هو يقف من بعيد، يشاهد ويتابع دون حراك، ينتقد ما يحدث دون أن يعطى لنفسه فرصة أن يشارك ولو لمرة واحدة فى صناعة الحدث، هو رجل يكره الثورة والثوّار، لا.. هو لا يكرههم، لكنه لا يحبهم، أو يكره الأشخاص ويحب الحدث، الحدث هو ثورة.. يحبها، أو ربما حتى يكره الثورة لأنها سلبت منه الاستقرار، رغم أنه كان ينعم باستقرار مزيف وسُلبت منه كل مقومات الحياة الشريفة، ربما اعتاد هو سنوات على الصمت، لأن الصمت كان أصلا ولم يكن استثناء، كان فرض عين وفرض كفاية، وعندما قرر أن يقطع صوم صمته، فكان كلامه كله مرا، غير ذى قيمة، كلام لا قيمة له ولا وزن، تكلم حين أصبح الصمت أعظم من الكلام! مبارك الآخر، هو مبارك الذى لم يرحل بَعد، ومازال يعيش فى أذهان الضعفاء والجبناء ومستغلى أنصاف الفرص، هو ذلك الرجل الذى دائماً ما يغلّب مصلحته الشخصية على مصلحة الوطن، رغم أن مصلحة الوطن بالأساس هى كل مصالحنا الشخصية، هى نحن فى أبهى صورنا! مبارك الآخر.. هو رجل اعتاد الاختلاف من أجل الخلاف، واعتاد الصراع من أجل الصدام، ولم يترك أبداً للمجتمع أن يعيش حالة حراك طبيعية، فاختار تحريكا دون حراك، مستغلاً حالة فقر سياسى وثقافى وربما دينى، ولم يعرف أنه ليس بالضرورة كل مفضل هو الأفضل، وأنه حتى من نراه الأفضل من وجهة نظرنا، ليس هو الأنسب، وأننا حين نختار فإننا نختار من هو الأنسب للوطن حتى ولو لم يكن الأنسب لنا، ربما لأنه لم يعتد أن يذوب كفرد فى إطار المجتمع، مبارك الآخر.. هو ذلك الناقم على الأوضاع متكئاً على معطيات أن حتى من قاموا بالثورة ينشرون فوضى التخوين فيما بينهم، وأن الثورة أخرجت أفضل ما فى المصريين، وما بعد الثورة تجسد القبح فى شخوص هؤلاء، البعض وليس الكل، إن هؤلاء الذين وقفوا رجلاً واحداً من أجل إزاحة الغم والهم المتمثل فى شخص رجل، وشخوص نظامه، ها هم اليوم أصبحوا رجالا كثيرين، ما يفرقهم أصبح أكثر مما يجمعهم، مبارك الآخر هو من يترقب وهو نائم فى بيته ما سيحدث، يعتقد أن المعجزة بدأت وانتهت برحيل النظام، ولم يفهم بَعد، أن المعجزة هى روعة البناء وليس سرعة الهدم، وأن المعجزة الحقيقة أن يصل إليه يقين بأن دوره ضرورى فى صناعة المعجزة! مبارك الآخر.. هو من يصنع الثورة المضادة بسذاجة الأطفال دون أن يدرى، هو رجل قام بالثورة وتخلى عن مبادئها، وقيمها، وأهدافها، هم بعض من الشياطين كانوا ملائكة ترفرف فى ميدان التحرير ويتخطف صورهم كل أحرار العالم، مبارك الآخر هو ذلك الديكتاتور الذى سنحاول أن نصنعه نحن، وإذ انتهينا سنصنع منه نصف إله، ثم يصبح هو فرعون، ونفاجأ جميعاً أننا "موسى"، وأن كل شخص منا هو "يوسف" يواجه إخوته، يحبهم ولا يحبونه، هم يغارون من نوره المشرق ووجهه السمح، فنسجن ونقمع ونُلقى فى بئر نحن من حفرناه، حتى يخرج جيل أرقى وأنقى وأكثر مسئولية ليزيح الديكتاتور، وينهى أسطورة نصف الإله، ويقتل الفرعون.. مبارك الآخر باختصار .. هو الكلام حين يُطلب الصمت، والسلبية حين تُطلب الإيجابية، وإعلاء المصلحة الشخصية حتى ولو كانت على حساب مصلحة المجتمع، هو كل عامل لا يعمل ويطلب الأجر، وكل ثائر حاول أن يصنع من نفسه بطلاً، رغم أن البطل شعب بكامله، هو كل صاحب رأى تفّه آراء الآخرين، هو نحن وربما هم، هو ديكتاتور جديد قد نصنعه فى وقت قريب!!