كبير.. الكبير لايهان.
الكبير لايهان.. ياله من شعار ومعنى إنسانى نبيل.. قالها لنفسه.. نظر لصورة يرفعها أحدهم للكبير وهو يبدو مهموما متعبا والتجاعيد تملأ وجهه ونظرة عينيه حزينة منكسرة.. أخذ ينظر إلى الصوره وتقترب منها عينيه حتى تلاقت العينان.. أحس بالأسى والحسرة وعاطفة تسرى إلى قلبه.
لحظة وأحس كأن رأسه تهتز ووجد عقله يقول له انتبه لا تستمع لصوت قلبك.. استمع لى أنا فعندى الخبر اليقين.. قال له قلبه لاتستمع له فهو قاس لا يرحم.
أحس بضربات قلبه تتسارع ومقلتى عينيه تتراقص وببرودة تسرى فى أطرافه وصوت يدوى فى رأسه.. قال عقله بصوت جهورى لقد سئمت منكم.. رد قلبه بصوت ضعيف وكأنه يتوسل إليه.. لاتكن ديكتاتورا.. لتطرح علينا حجتك بدلا من أن تمارس علينا سلطانك وقوتك.. فكر العقل لحظة ثم قال بهدوء.. ليكن.. فلنتحاور ولتناطحنى الحجة بالحجة ولنرى.
أحس الرجل بضربات قلبه تعود لطبيعتها وبعينيه تستقر مكانها وبالحرارة تعود إلى أطرافه.. كان متعبا وقد زاده ما حدث تعبا.. أغمض عينيه واسترخى بجسده تاركا الحوار بين عقله وقلبه يتواصل فلعلهم يتفقان ويتركانه يعيش فى سلام.
بادر العقل.. سأسألك سؤالا بسيطا وأنتظر منك الإجابة.. من هو الكبير..؟ تفاجأ القلب بالسؤال لوهلة.. فقال له العقل لأساعدك وأطرح عليك خيارات.. هل الكبير كبير بعمره..؟؟ هل هو كبير بجاهه..؟؟ هل الكبير كبير بماله..؟؟ أم الكبير كبير بتواضعه.. بتفانيه.. بإخلاصه.. بنزاهته.. برحمته بالضعفاء.. بطهر يده.. برجاحة عقله..؟؟
بنبرة حزينة هامسة رد القلب وكأنه يكلم نفسه.. نعم هو كبير فى العمر وأعطاه الله جاها و... وتوقفت الكلمات وأخذ يتهته ويبدأ حروفا لا يستطيع ترجمتها إلى كلمات.. سأله العقل لماذا لاتكمل..؟؟ نظر إليه القلب بعين منكسرة واتجه بنظره إلى الأرض.
قال له العقل سأقول لك ما فاتك.. أنت منذ زمن بعيد معتقل فى حجراتك الأربعة مشغول طوال الوقت بالعمل والإنقباض والانبساط.. من الواضح أنك فى انشغالك هذا لا تقف على أشياء كثيرة.. تمر على إدراكك مرور الكرام.
إن كبيرك كان لا يرحم ضعيفا ولامسكينا.. لم يكن يوما قريبا من أبناء شعبه الذى ولاه الله أمرهم فأصبح مسئولا عنهم.. كان يعيش فى برجه العالى لا يسمع ولا يرى.. كان أحيانا يتكلم وتلك الأحيان تكون شعارات جوفاء لا تمس واقعا إن لم تكن سخرية وتهكما من معاناة الضعفاء واستخفاف بمآسى المساكين.. لم تمتد له يد لتربت على كتف أب أو أم أو أخ أو زوجة ممن فقدوا أحباءهم فى عبارات أو انهيارات أو حرائق أو اعتصامات أو طوابير للقمة العيش أو أنبوبة غاز.. أحاط نفسه بالفاسدين وأصحاب الضمائر العفنة فسلطهم على شعبه المسكين.. تشبث بالكرسى وهو شيخ مريض ليورثه لابن يفتقد الحكمة ولا يرى وطنه إلا مغنما ومغارة لعلى بابا.
نظر العقل إلى القلب فوجده مازال ينظر إلى الأرض ولا يستطيع رفع بصره لمواجهته فاسترسل فى كلامه.. هل رحم أحدا.. أنه لم يرحم رجلا قال له فى مسجد رسول الله يوما اتق الله فى شعبك.. اعتقل هذا الرجل خمسة عشر عاما ذاق فيها كل أنواع الهوان من أجل كلمة حق لم يطق سماعها.. لم يعرف لهذا المسكين قدرا وأنه حارب من أجل الوطن وكان من المدافعين عن مدينة السويس الباسلة..!!
آلاف من البشر أهينوا وذاقوا الهوان وقتل منهم من قتل من التعذيب الجسدى والنفسى والمعنوى أكثرهم لم يأت بجرم ولا بجريرة.. لماذا لم يرحمهم ويقدر ضعفهم ويتق الله فيهم وفى أسرهم.
عندما خرجت الملايين من شعبه لتقول له لا نريدك تشبث بالكرسى تشبث الغريق وخير شعبه بين بقائه والفوضى.. تسلط زبانيته فقتلوا من قتلوا ودهسوا من دهسوا فأسالوا دماء وروعوا الآمنين وسادت الفوضى التى وعد شعبه بها وفى النهاية لم يغن كل هذا عنه شيئا.
وهنا رفع القلب عينيه وبعيون ثابتة واثقة سأل سؤلا لم يتوقعه العقل منه.. هل محاسبة الكبير ومحاكمته إهانة؟
أخذ العقل الخيط ورد بسرعة بل على العكس إن هذه المحاكمة لفرصة ليدافع عن نفسه ويبرئ ذمته إذا كان كما يدعى أنه أعطى لوطنه ما استبقى شيئا.. فرصة إذا كانت لديه المقدرة ليثبت أنه برىء وأن شعبه اتهمه بالباطل
وهنا كانت المفاجأة فقد هتف القلب والعقل معا فى آن واحد.. الكبير لايهان.. الكبير لايهان.. الكبير يحاكم محاكمة علنية.. ليثبت أنه فعلا كبير.. كبير بالفعل وليس بالقول.. بالحق وليس بالباطل.. ملأ الهتاف صدر الرجل ورأسه.. المحاكمة.. المحاكمة.. المحاكمة يا كبير.
تنبه الرجل لنفسه وفتح عينيه لتتلاقى مرة أخرى مع عينى صورة الكبير فوجد إحساسه تبدل ووجده يحدث صورة الكبير ويوجه لها الكلام.. إذا كان شعب ظلمك.. فلسانك فرسك.. امتطه وأظهر روح الفرسان.. واجه الاتهامات بالكلمات والحقائق وليس بالانزولاء والاختفاء.. شعبك فى انتظارك.. تقدر تواجه.. حاول.
قام ليغادر المكان وهو يركب عربة المترو.. كان صوت انطلاق العربة يتصاعد درجة درجة، كما كان صوت فى عقله يتصاعد وهو يقول.. إن لم يكن من الموت بد.. فمن العار أن تموت جبانا.