الحياة .. فصرت لا أجيد التركيز إلا على سقف غرفتي ربما لكوني أجدها مساحة بيضاء
ارسم من خلالها كل الأشكال التي تنسجها ذاكرتي في هذه الليلة بالذات .. ولا ادري
لماذا ؟ قد تكون هي الأولى التي أمضيها منفردة دون دفئه ، وربما لكونه كان يملأ ما
تبقى من السرير كل ليلة .. ولذلك لجأت كي اشغل هذا الحيز الداكن من فراغه بأجساد
أطفالي الثلاثة وهم يغطون بنوم عميق وخصوصا بعد أن هدأ دوي الانفجارات هنا وهناك ..
وكلما دب في عيني الوسن تراءت لي صورته وهو يخاطب الصغار ( بابا .. لا تخافون ،
هذي الطائرات تضرب بس المصانع ) فيهدأ روعنا ونلوذ في جوانبه متخذين من جسده النحيل
ملاذا آمنا ، أو انه حين يغازل ابنته الكبرى يريد من ذلك تأجيج لهيب الغيرة بداخلي
، حتى تخترق في هذه الساعة قهقهاته العالية حصون صدري المنقبض ..
لقد أحببته
دون أعي طقوس العشق وتوغلت بي رجولته دون أن أدرك معالم أنوثتي .. حتى صارت ولادة
ابنتنا البكر ناقوسا أيقظ بي وجودي كامرأة والى جانبي رجل يحبني بإفراط شديد فصرت
أراه مرة أبانا وأخرى انفرد به زوجا حنونا ..
وكأن هذه الليلة منطادٌ يحلق بي
في كونه الفسيح ، فأدركت ولأول مرة أني بدونه رأسٌ مكتظ بزحمة الأفكار ، وجسد سهل
الاختراق من لسعات البرد وقشعريرة الكوابيس .. في الوقت الذي انزاح إليه الوهن
لتموت كلتا يدي من الحراك حتى أني عجزت عن تحريك طفلي الصغير وهو يتدحرج عن السرير
.. وأنا كذلك فقد استقر بصري على صورته المعلقة على الجدار ورغم ظلمة المكان حيث
انقطاع التيار الكهربائي فقد ميزت كل تقاسيم محياه ، وان كاد لهب شمعة ( البرافين )
يتلاشى رويدا رويدا ، فأنني أبصرت وبوضوح الخال الذي تجلى أسفل شفته ، فقد أضاف له
جمالا بعثر كل العتمة التي تحيط بالصورة .. وأخذتني الصورة بعيدا حيث الأيام الأولى
لزواجنا تفقدتها ساعة ساعة ولم يوقظني من رحلتي إلا انفجار قوي هز أركان الغرفة
ليستيقظ الصغار على دويه متعلقين بي ، حاولت تهدئتهم وأنا اربت على أكتافهم لكي
يعودوا للنوم في الوقت الذي رغبت في العودة لحلمي .. غير أن شعوري بالحاجة الشديدة
له وفي هذه اللحظة بالذات افقدني لذتي بكل الأحلام .. تأففت بشدة وكأني انفث جمرا
مخبوءا في أحشائي ..
وأحسست بخوف شديد يحصد اللامبالاة التي اعتدت عليها بوجوده
، ربما خوفي ناتج من خوفي عليه من زحمة الحرب والفوضى التي تعم البلاد على الرغم من
انه ذاهب للبحث عن شقيقه الذي ينتمي لأحدى الوحدات العسكرية ووعدنا بالعودة سريعا
.. يا ألهي !! أين هو الآن ؟ نهضت لأطرد شبح القلق كي أجلب غطاء آخر أضعه على أكتاف
الصغار حيث إحساسي بشدة البرد ، غير أن كل شيء عالق بخيالي من صور وأوهام وتهيؤات ،
ولا زال التساؤل يبطش بحيرتي ، أين هو الآن ؟ فالساعة قاربت الرابعة فجرا .. بينما
تجمد ظهري من البرد وأن دفنته بألاغطية فلا زلت بحاجة شديدة لأحضانه ، وكأني غفوت
قليلا .. ولعله صياح الصغار ذاك الذي يخترق سمعي كعادتهم حين استيقاظهم مبكرين ..
حيث عراكاتهم المستمرة بالوسائد في كل صباح ولا تهدأ ثورتهم حتى يحين موعد إفطارهم
فتكون المائدة طاولة سلام .. إلا أن الصياح يبدو لي هذه المرة أكثر صخبا وهو يشج
لحظات حلم لم أتذكره .. بل تعداه ليكون مزدحما وغليظا .. انتبهت مرعوبة وجدت الصغار
لا زالوا على نومتهم .. حتى أنهم انتفضوا لفزعي .. ورحت أهرول دون شعور نحو مصدر
الأصوات والصياح فكان باب الدار مستقرا لذهولي وتسمري متشبحة على نعش التف حوله بعض
الجيران من بينهم أقربائنا وهناك وقفت أشباح نساء .. يخمشن وجوههن .. فيما دفعني
احدهم ليدخل الدار باحثا عن شيء ما .. وراح آخرون يتحاورون :
- منو هو ؟ حامد ؟
- لا يمعود ... يكولون ( عامر ) !!
- عجيب !! آني أمس شفته
- راح يبحث
عن شقيقه فأصابه القصف ...
- لا لا لا آني ما اصدق .. يجوز هذا حامد لان هو
عسكري !
ودون شعور .. كأني أردت حسم النزاع .. حول هذا الذي يحمله النعش فدنوت
منه دفعني احدهم .. ربما من باب عدم جواز اقتراب النساء .. أو انه لا يريد مني رؤية
المشهد .. مددت يدي بعناء شديد بين الحاضرين وهي ترتعش نحو غطاء النعش فاجتهدت كي
ارفعه قليلا لم أر سوى جسدا ملفوفا بالقماش الأبيض وهناك قطرات من الدم لونت بعض
جوانبه .. غير أنهم ربما كانوا عجلين في لفه .. فبدت الشفة السفلى حيث لازال الخال
متوقدا ..