للكاتب : مصطفى الرافعي
تبدأ القصة عند ولادتي، فكنت الابن الوحيد في أسرة شديدة الفقرفلم يكن لدينا من الطعام ما يكفينا ....
وإذا وجدنا في يوم من الأيام بعضا ًمن الأرز لنأكله ويسد جوعنا :
كانت أمي تعطيني نصيبها .. وبينما كانت تحوِّل الأرز من طبقها إلىطبقي كانت تقول: يا ولدي تناول هذا الأرز، فأنا لست جائعة ..
وكانت هذه كذبتها الأولى
وعندما كبرت أنا شيئا قليلا كانت أمي تنتهي من شئون المنزل وتذهبللصيد في نهر صغير بجوار منزلنا، وكان عندها أمل أن أتناول سمكة قدتساعدني على أن أتغذى وأنمو، وفي مرة من المرات استطاعت بفضلالله أن تصطاد سمكتين، أسرعت إلى البيت وأعدت الغذاء ووضعتالسمكتين أمامي فبدأت أنا أتناول السمكة الأولى شيئا فشيئا، وكانت أميتتناول ما يتبقى من اللحم حول العظام والشوك، فاهتز قلبي لذلك ،وضعت السمكة الأخرى أمامها لتأكلها، فأعادتها أمامي فورا وقالت :
يا ولدي تناول هذه السمكة أيضا، ألا تعرف أني لا أحب السمك ..
وكانت هذه كذبتها الثانية
وعندما كبرت أنا كان لابد أن ألتحق بالمدرسة، ولم يكن معنا من المالما يكفي مصروفات الدراسة، ذهبت أمي إلى السوق واتفقت مع موظف بأحدمحال الملابس أن تقوم هي بتسويق البضاعة بأن تدور على المنازلوتعرض الملابس على السيدات، وفي ليلة شتاء ممطرة، تأخرت أمي فيالعمل وكنت أنتظرها بالمنزل، فخرجت أبحث عنها في الشوارع المجاورة،ووجدتها تحمل البضائع وتطرق أبواب البيوت، فناديتها: أمي، هيا نعودإلى المنزل فالوقت متأخر والبرد شديد وبإمكانك أن تواصلي العمل في الصباح،فابتسمت أمي وقالت لي: يا ولدي.. أنا لست مرهقة ..
وكانت هذه كذبتها الثالثة
وفي يوم كان اختبار آخر العام بالمدرسة، أصرت أمي على الذهاب معي،ودخلت أنا ووقفت هي تنتظر خروجي في حرارة الشمس المحرقة،وعندما دق الجرس وانتهى الامتحان خرجت لها فأحتضنتني بقوة ودفءوبشرتني بالتوفيق من الله تعالى، ووجدت معها كوبا فيه مشروب كانتقد اشترته لي كي أتناوله عند خروجي، فشربته من شدة العطش حتى أرتويت ،بالرغم من أن احتضان أمي لي: كان أكثر بردا وسلاما، وفجأة نظرتإلى وجهها فوجدت العرق يتصبب منه، فأعطيتها الكوب على الفور وقلت لها:
إشربي يا أمي، فردت : يا ولدي أشرب أنت، أنا لست عطشانة ..
وكانت هذه كذبتها الرابعة
وبعد وفاة أبي كان على أمي أن تعيش حياة الأم الأرملة الوحيدة، وأصبحتمسئولية البيت تقع عليها وحدها، ويجب عليها أن توفر جميع الاحتياجات،فأصبحت الحياة أكثر تعقيدا وصرنا نعاني الجوع، كان عمي رجلا طيباوكان يسكن بجانبنا ويرسل لنا ما نسد به جوعنا، وعندما رأى الجيرانحالتنا تتدهور من سيء إلى أسوأ، نصحوا أمي بأن تتزوج رجلا ينفقعلينا فهي لازالت صغيرة، ولكن أمي رفضت الزواج قائل :
أنا لست بحاجة إلى الحب ..
وكانت هذه كذبتها الخامسة
وبعدما أنتهيت من دراستي وتخرجت من الجامعة، حصلت على وظيفةإلى حد ما جيدة، واعتقدت أن هذا هو الوقت المناسب لكي تستريح أميوتترك لي مسؤولية الإنفاق على المنزل، وكانت في ذلك الوقت لم يعدلديها من الصحة ما يعينها على أن تطوف بالمنازل، فكانت تفرش فرشافي السوق وتبيع الخضروات كل صباح، فلما رفضت أن تترك العملخصصت لها جزءا من راتبي، فرفضت أن تأخذه قائلة:
يا ولدي احتفظ بمالك، إن معي من المال ما يكفيني ..
وكانت هذه كذبتها السادسة
وبجانب عملي واصلت دراستي كي أحصل على درجة الماجيستير،وبالفعل نجحت وأرتفع راتبي، ومنحتني الشركة الألمانية التي أعمل بهاالفرصة للعمل بالفرع الرئيسي لها بألمانيا، فشعرت بسعادة بالغة،وبدأت أحلم ببداية جديدة وحياة سعيدة، وبعدما سافرت وهيأت الظروف،اتصلت بأمي أدعوها لكي تأتي للإقامة معي، ولكنها لم تحب أن تضايقنيوقالت: يا ولدي .. أنا لست معتادة على المعيشة المترفة ...
وكانت هذه كذبتها السابعة
كبرت أمي وأصبحت في سن الشيخوخة، وأصابها مرض السرطان اللعين،وكان يجب أن يكون بجانبها من يمرضها، ولكن ماذا أفعل فبيني وبينأمي الحبيبة بلاد، تركت كل شيء وذهبت لزيارتها في منزلنا، فوجدتهاطريحة الفراش بعد إجراء العملية، عندما رأتني حاولت أمي أن تبتسم ليولكن قلبي كان يحترق لأنها كانت هزيلة جدا وضعيفة، ليست أميالتي أعرفها، أنهمرت الدموع من عيني ولكن أمي حاولت أن تواسينيفقالت: لا تبكي يا ولدي فأنا لا أشعر بالألم ...
وكانت هذه كذبتها الثامنة
وبعدما قالت لي ذلك، أغلقت عينيها، فلم تفتحهما بعدها أبدا ...
إلى كل من ينعم بوجود أمه في حياته :
حافظ على هذه النعمة قبل أن تحزن على فقدانها
وإلى كل من فقد أمه الحبيبة :
تذكر دائما كم تعبت من أجلك، وأدع الله تعالى لها بالرحمة والمغفرة ..
أحبك يا أمـي
(د.مصطفى الرافعي