قال الراوي : جاءنا رجلٌ مهموم ... وقد أنهكته الغموم ... فهو من الحزن مكظوم ... فقال :
أيها الناس ... حل بنا البأس ... وذهب منا السرور والإيناس ... وتفرد بنا الشيطان ...
فأسقمنا حميم الأحزان ...
فهل منكم رجلٌ رشيد ... رأيه سديد ... يصرف عنا هذا العذاب الشديد ... فقام منا ... شيخٌ
ينوب عنا ... وهو أكبرنا سنا ... فقال : أيها الرجل الغريب ... شأنك عجيب ... تشكو الهم
والوصب ... والغم والنصب ... وأراك لم يبق منك إلا العصب ... أما تدعو الرحمن ... أما
تقرأ القرآن ... فإنه يذهب الأحزان ... ويطرد الوحشة عن الإنسان ... ثم اعلم وأفهم ...
لتسعد وتسلم ...
إن من أعظم الأمور ... في جلب السرور ... الرضا بالمقدور ... واجتناب المحذور ...
وعليك بالقناعة ... فإنها اربح البضاعة ...
وأملأ قلبك بالصدق ... وأشغل نفسك بالحق ...
وإلا شغلتك بالباطل ... وأصبحت كالعاطل ...
وفكر في نعم الله عليك ... وكيف ساقها إليك ...
من صحةٍ في بدن ... وأمنُ في وطن ... وراحةٌ في سكن ... ومواهبٌ وفطن ... مع ما صرف من
المحن ... وسلم من الفتن ...
وأسأل
نفسك في النعم التي بين يديك ... هل تريد كنوز الدنيا في عينيك ؟... أو
أموال قارون بين يديك ؟... .. أو حدائق دمشق في أًُذنيك ؟... وهل تشتري ملك
كسرى بأنفك ولسانك وفيك ؟... مع نعمة الإسلام ... ومعرفتك للحلال والحرام
...
وطاعتك للملك العلام ...
ثم أعطاك مالاً ممدوداً ... وبنين شهوداً ... ومهد لك تمهيداً ... وقد كنت وحيداً فريداً
وأحمد
ربك على العافية ... والعيشة الكافية ... والساعة الصافية ... فكم في
الأرض من وحيدٍ وشريد ... وطريدٍ وفقيد ... وكم في الأرض من رجلٍ غُلب ...
ومالٍ سُلب ... وملكٌ نُهب ... وكم من مسجون ... ومغبونٌ ومديون ...
ومفتونٌ ومجنون ... وكم من سقيم ... وعقيمٍ ويتيم ... ومن يلازمه الغريم
... والمرَضُ الأليم ... وأعلم أن الحياة غرفةً بمفتاح ... تصفقها الرياح
... لا صخبٌ فيها ولا صياح ...
وأعلم أن لكل باب من الهم مفتاحاً من السرور ... للذنب ربٍ غفور ... والفلك يدور ...
وأنت لا تدري بعاقبة الأمور ... وملكُ كسرى لا تغني عنه كِسرة ... ويكفي من البحر قطرة
... فلا تذهب نفسك حسرة ... ولا تتوقع الحوادث ... ولا تنتظر الكوارث ... ولا تحرم نفسك
لتجمع للوارث ... ويغنيك عن الدنيا مصحفٌ شريف ... وبيتٍ لطيف ... ومتاعٍ خفيف ...
ماءٍ ورغيف ... وثوبٍ نظيف ... والعزلةُ مملكة الأفكار ... والدواء كل الدواء في صيدلية
الأذكار ... وإذا أصبحت طائعاً لربك ... وغناك في قلبك ... وأنت آمنٌ في سربك ... راضٍ
بكسبك ... فقد حصلت السعادة ... ونلت الزيادة ... وبلغت السيادة ... وأعلم أن الدنيا
خداعة ... لا تساوي همّ ساعة ... فأجعلها طاعة ... فلما انتهى من وعظه ... أعجب بلفظه
فقال له : جزاك الله عني خير الجزاء ... فقد صار كلامك عندي أشرف
العزاء .