لا تكاد حاجة الصحف تنتهي إليه، لا سيما إن كان ماهرًا.. إنه
الصحفي "الديسك مان"، أو الصحفي المُختص بالمراجعة التحريرية لعمل زملائه من
الصحفيين في أي قسم من أقسام الجريدة. ويتطلب عمل الصحفي الـ "ديسك مان"deskman أن تتوافر فيه مجموعة من المواهب والقدرات التي كلما
زادت وتألقت فيه.. زاد دخله، والطلب عليه، لا سيما في الدول العربية، ودول الخليج
بصفة خاصة.
وينتمي "الديسك مان" إلى
قسم "المطبخ الصحفي:"kitchen" أو قسم سكرتارية التحرير
أو المراجعة، وهو القسم الذي يقوم على تلقي أعمال الآخرين التحريرية، خاصة في قسم
الأخبار، من أجل إعدادها في صورة صحفية صالحة للنشر، بحيث يتأكد "الديسك مان" من
دقته المعلوماتية، وسلامته اللغوية، ومناسبته السياسية، وجدارته
المهنية.
ويقوم عمل الصحفي "الديسك مان" أيضًا - كما هو واضح
من اسمه - على التخصص في هذا الصدد، والجلوس إلى المكتب أطول فترة ممكنة، فزملاؤه
يأتون إليه بأعمالهم، ليقوم بضبطها، وإعادة كتابتها (صوغها)، أو "طبخها" لتبدو في
قالب صحفي جذاب، ومنضبط، ومُختصر، وفي الوقت نفسه: خال من الأخطاء
والمعايب.
المهارات
المطلوبة
ليس كل صحفي يصلح لأن يكون "ديسك مان"، بل لا بد من
توافر شروط معينة ومهارات خاصة فيمن يتصدى لعمل "الديسك" أو مراجعة
التحرير.
ويأتي في مقدمة هذه المهارات ما
يلي:
1 - المَلكَة
اللغوية:
بحيث يكون الصحفي "الديسك مان" على دراية واسعة
بعوامل السلامة اللغوية في الكتابة، والتحرير، من حيث جزالة العبارة، وسلامة
التركيب، ومناسبة الكلمات للتعبير عن المعاني المقصودة، والمُستهدفة. وكذلك يكون
على دراية بالأخطاء اللغوية الشائعة؛ لكي يتجنبها، ويكتب الصحيح بدلا
منها.
2 - القدرة
النحوية:
يقتضي عمل "الديسك مان" أن يكون صاحبه مدركًا لقواعد
اللغة العربية (النحو والصرف) ليضبط كل جملة، بل كلمة، ضبطًا سليمًا، بحسب موقعها
من الإعراب.
3 - مهارة التذوق
المهني:
الكلام كالطعام، وكما ينتقي الإنسان أطايبه ليأكله،
كذلك يجب على الصحفي "المُراجع" أن ينتقي أطايب: الألفاظ والعناوين والمقدمات
والاستهلالات.. إلخ .. وأن تكون لديه كذلك حاسة في "التذوق اللغوي".. ليحدد: هل هذه
أفضل كلمة في التعبير عن المعنى المقصود؟ وهل هذا أفضل عنوان - حقًا- يمكن
وضعه؟
4 - القدرة على الإبداع
والابتكار:
التمكن من "رقبة" اللغة، والتحكم في الكلمات،
والسيطرة على السياق، وحسن توظيفه بشكل غير تقليدي، انتقاءً من قاموس لغوي ثري
وواسع.. كلها مواهب وقدرات تنتج في محصلتها النهائية منتوجًا إعلاميًا ناجحًا
ومشوقًا وجذابًا للقارئ، يؤدي في النهاية إلى رسم معالم شخصية خاصة بالجريدة،
متجددة ومبتكرة، ولها وقع خاص في قلب المتصفح في الوقت نفسه، ومن ثم نجاحها في
التواصل مع قارئها، باعتبار "اللغة وعاء
التفكير".
5 - التحلي بالملاحظة
القوية:
النص المكتوب قد ينطوي على عدد من الأخطاء الخفية
مما قد لا يدركه القارئ العادي، سواء في الرقم أو المعلومة العلمية أو التاريخية أو
السياسية أو الدينية...إلخ، الأمر الذي يقتضي كشفها وتصحيحها بحيث لا يمر أي من هذه
الأخطاء دون اكتشافه، وتصحيحه... وهو ما يعني الحاجة الملحة إلى أن يكون الصحفي
"المراجع" ذا قدرة فذة على الملاحظة، والالتقاط ، وحضور
الذهن.
7 - التمتع بالثقافة الموسوعية
الشاملة:
الصحفي الناجح هو الذي يتخصص في لون معين كالأدب أو
الثقافة أو الشئون الدولية أو المحلية أو العربية.. إلخ .. وفي الوقت نفسه يعرف
شيئًا عن كل شيء، وذلك مع معرفة "كل شيء عن شيء" .. لكن عمل الصحفي "الديسك مان"
يقتضي منه أن يكون على دراية واسعة، وثقافة شاملة، ومتابعة جارية للأحداث؛ لأنه
يراجع كتابات الآخرين عن هذه الأحداث والشئون.. ومطالعته المستمرة لها، وحسن
متابعتها ورصدها، لا يجعله متخلفًا عنها، بل يضعه في بؤرة الأحداث، مما ييسر عمله،
ويجنبه كثيرًا من المزالق.
6 - مهارة الاختصار
والاختزال:
الأفكار والمعاني في اللغة العربية تأتي على ثلاث
صور: أن تكون الكلمات أكثر من المعاني المقصودة والمُستهدفة، وهذا يقتضي اختصارهذه
الكلمات واختزالها.. أو أن تكون الأفكار والمعاني أقل من الكلمات الواجب استخدامها
للتعبير عنها، وهنا يستدعي الأمر المزيد من "التوسيع" وزيادة عدد الكلمات من أجل
"إشباع" المعنى الذي يكون ناقصًا وغير واضح في هذه الحالة.. أما الصورة الثالثة
والنموذجية في الكتابة فهي أن تأتي الأفكار مساوية لعدد الكلمات المُستخدمة للتعبير
عنها، بلا زيادة ولا نقصان، وهذه هي "البلاغة" في أجلى
أشكالها.
وهكذا يجد الصحفي "الديسك مان" نفسه في حاجة إلى حذف
كل الكلمات المكررة والزائدة على اللغة، والتي لا تمثل أي إضافة على العمل الصحفي،
بل تكون "حشوًا" يبعث الملل على القارئ، ويهدر وقته، ويكلفه مجهودًا بدون
داع.
7 - الإلمام بالسياسة التحريرية
للجريدة:
لكل صحيفة سياسة تحريرية حاصة بها، تميزها عما
سُواها من الصحف.. فهناك الصحيفة "المحافظة"، التي تكتسي ثوب الرزانة والوقار،
وتحافظ على أسلوب معين في التناول والخطاب.. وهناك الصحيفة "المتحررة" التي ترفع
سقف تناولها الإعلامي، فتدلف إلى المناطق "المحظورة" سواء الدينية أو السياسية أو
الغرائزية.. وهناك الصحيفة المثيرة أو الشعبية التي تتزيا للقراء بزي العناون
الزاعقة والصور الخارجة والمعالجات المثيرة، التي لا تلقي بالاً للأعراف والآداب
والتقاليد العامة السائدة في المجتمع.
وكل صحيفة من هذه
النوعيات الثلاث تحتاج إلى أسلوب خاص في الكتابة والتناول والمعالجة والتعبير
والعناوين وتوزيع العناصر الطوبوجرافية ( الصور والألوان والمانشيتات.. إلخ) بما
يناسب سياستها التحريرية، وشخصيتها بين الصحف الأخرى.. وكلما تمكن الصحفي "الديسك
مان" من الالتزام بالسياسة التحريرية لجريدته.. زادت قيمته، واستمساك صحيفته به،
واعتمادها عليه.
8 - مراعاة الذوق العام في
المجتمع:
هناك مجموعة من القواعد الأخلاقية والمعايير
المجتمعية والآداب العامة التي ينبغي عدم تخطيها أو تجاوزها، أو القفز عليها، عند
الكتابة الصحفية، وتتعلق بمراعاة الذوق العام، وما تعارف عليه المجتمع، والالتزام
بعدم الجنوح نحو الانحلال أوالبذاءة أو الإسفاف أو الابتذال.. وعلى الصحفي
"الديسكمان" معرفة هذه القواعد والمعايير، حتى لا يتسبب جهله بها فيما لا تُحمد
عقباه لصحيفته: قانونًا وعُرفًا.
9 - التمكن من استخدام
الكمبيوتر:
لم يعد الكثير من الصحف والصحفيين يعتمد على كتابة
مادته وإعدادها للنشر يدويًا؛ إذ زاد الاعتماد على جهاز الكمبيوتر، وتجهيز المواد
المكتوبة من خلاله، ومن هنا فإن مراجعة هذه المواد مهنيًا تقتضي الإلمام بفنون
الكتابة والتحرير باستخدام الكمبيوتر، وبرامج الكتابة عليه، باعتباره صار يمثل حلقة
وصل مهمة في مراحل العمل الصحفي المختلفة.
10 - القدرة على التواصل
الاجتماعي:
عمل "قسم المراجعة" أو "الديسك" يقتضي من أعضائه
التواصل الدائم مع المحررين والزملاء في جميع الأقسام، نتيجة الاحتكاك اليومي بهم،
والتناقش حول أعمالهم؛ مما يقتضي قدرة اجتماعية كبيرة على التعامل الناجح معهم، لا
سيما أن منهم الانفعالي والغضوب والهادئ والمتكبر والعنيد.. إلخ.. وكل صنف من هؤلاء
يحتاج إلى أسلوب خاص في احتوائه، وإقامة علاقة اجتماعية سليمة معه، بدون اصطدام أو
مواجهة، بل بلطف ومُفاهمة، وذلك لمصلحة
العمل.
11 - سرعة القراءة
والتحرير:
يعمل "الديسك مان" - في الغالب- تحت ضغوط شديدة
نتيجة كثرة المواد المُسلمة إليه، ومطالبته بضرورة الإسراع في إنجازها، وهنا يجب
عليه امتلاك القدرة على سرعة القراءة مع سرعة التحرير، وإعادة الكتابة ( صوغ
المادة)، في أقل زمن بأفضل كيفية ونتيجة.
12 - الخبرة الصحفية
المُتراكمة:
من الأهمية بمكان للصحفي المراجع التمرس بجميع ألوان
العمل الصحفي، سواء: خبر أو تحقيق أو مقال أو حوار أو تقرير، وكذلك امتلاك خبرة في
ممارسة هذه الأعمال سابقًا من واقع الميدان لا من واقع "المكتب" فقط .. لذلك فإنه
في الصحف الغربية يتم انتقاء محرري قسم "الديسك" ممن تمرسوا بجميع ألوان العمل
الصحفي، وفي مرحلة متأخرة- لا متقدمة- من عمرهم الصحفي، حتى تكون لديهم الخبرة
الكافية للقيام بأعبائه.
سلبيات عمل
"الديسك"
1 - متاعب
صحية:
تتمثل في أن طول الجلوس إلى المكتب يصيب الإنسان
بأمراض الغضروف وأسفل الظهر والعنق والرسغين...إلخ؛ لذلك لا ينبغي أن يزيد مُكث
محرر "الديسك" إلى المكتب أكثر من ساعة، يتلوها مشي أو حركة لمدة تتراوح بين خمس
وعشر دقائق.. ثم يعود لمزاولة عمله، وهكذا
دواليك.
2 - مشكلات
معنوية:
الصحفي "الديسك كمان" يُجوِّد شغل غيره، ولا يحق له
وضع اسمه عليه، وقد يعيد كتابة الموضوع كله -من أوله إلى آخره- دون أن يلحظ القارئ
أن ذلك من إنتاج صحفي آخر، بخلاف الموجود اسمه أو توقيعه على الموضوع المنشور.. أي
إن "الديسك كمان" يظل بمثابة "الجندي المجهول" أو "الشمعة التي تحترق من أجل
غيره".
ولعلاج هذا الخلل، يمنح بعض الصحف مقابل "عدم شهرة"،
وهو مبلغ شهري ثابت، لمحاولة تعويض الصحفيين في "المطبخ" الصحفي عن عملهم هذا في
الظل، وكونهم "جنودًا مجهولة".
3 - النظرة المتدنية
أحيانًا:
تشيع في بعض الأوساط الصحفية غير الواعية ولا
المنصفة نظرة دونية من الصحفي لزميله محرر "الديسك" بحكم أنه لا مصدر خبري ثابت ولا
عمل صحفي ميداني يقوم به كما أنه لا يحظى بدرجته في الشهرة والذيوع والانتشار ..
وهي نظرة تمثل جُرحًا وألماً بالغين لمحرر "الديسك" لدينا في منطقتنا العربية
والإسلامية، لكنها ترتبط بالأبعاد النفسية لشخصية أولئك الصحفيين غير الواعين أكثر
من ارتباطها باعتبارات موضوعية أو واقعية.
لقد آن الآوان لتغيير
هذه النظرة المجحفة، ورد الاعتبار لمحرري "الديسك"، لا سيما أنهم يتبوءون في الصحف
العالمية أعلى المراتب، ويحصلون على أعلى الرواتب، ولا يتخصصون في "الديسك" - كما
سبقت الإشارة- إلا على سبيل التكريم، والانتفاع بخبرتهم، بعد عمل ميداني حافل في
الصحافة، لا يقل عن عشر سنوات أو خمس عشرة
سنة.
4 - الشعور بالملل
والرتابة:
نتيجة سير عمل قسم "الديسك" على وتيرة واحدة في غالب
الأوقات، فقد يشعر المحرر أحيانًا بالملل والضيق نتيجة ممارسته العمل ذاته كل يوم
بالشكل نفسه.
وحل هذه المشكلة بسيط، ويتمثل في إيجاد المحرر
حافزًا ودافعية في نفسه للإبداع والابتكار والتجديد الدائم في عمله، وأن ينظر إليه
بشكل غير تقليدي، حتى يتغلب على هذه المشاعر السلبية
والمُعوقة.
ميزات لا يُستهان
بها
1 - عمل مطلوب
دومًا:
إذا كان العرض أكثر من الطلب في سوق الصحافة بالنسبة
للصحفيين حاليًا، فإن صحفي "الديسك" لا يجد مشقة كبيرة في الحصول على فرصة عمل في
مجال تخصصه، وذلك في أي وقت.. ذلك أن هذه الشريحة الماهرة في دنيا الصحافة تمثل
عُملة نادرة، وكلما زادت كفاءتها زادت قيمتها، وزاد الإقبال
عليها.
كما أن قسم "الديسك" في أي صحيفة هو قسم "طارد" وليس
"جاذبًا" في الغالب، ومن ثم فهو في حاجة دائمة إلى "تطعيمه" بمزيد من الكفاءات
الصحفية سواء من خارج المؤسسة الصحفية أو من داخلها، الأمر الذي يعني أن هذا القسم
في حاجة لا تنقطع إلى أعضاء جدد، وهو ما يعني توفير فرص عمل ذهبية للمتخصصين
فيه.
2 - المقابل المادي
الجيد:
يتمتع محرر "الديسك" - نظرًا لطبيعة عمله الحساسة
والشاقة- براتب مرتفع قياسًا بأقرانه في الأقسام الأخرى، أو هكذا يجب أن تكون
الأمور، كما أنه يستطيع أن يفرض الراتب الذي يريده بحسب كفاءته وموهبته وقدرته على
الإنجاز، وقد يقوم بعمل وجهد مُضاعفين، فيحصل على راتب مثليه من
زملائه.
3 - فرص كبيرة للعمل
بالخارج:
لم تستطع دول الخليج العربية حتى الآن - في كثير من
مؤسساتها الصحفية - تخريج جيل من أبنائها الأكفاء ممن يتقنون عمل "الديسك"، كما أن
هؤلاء غالبًا ما ينظرون إلى عمل "الديسك" على أنه غير مرغوب فيه؛ لأنهم - ببساطة-
يبحثون عن الثراء والشهرة والصعود الاجتماعي السريع.. مما يوفر فرصة ذهبية لمحرري
"الديسك" المهرة، لا سيما من مصر ولبنان وفلسطين، وغيرها من الدول العربية، للعمل
في هذا التخصص بتلك الدول، وبأجور معقولة، قد تكون أكثر من أجور المحررين
العاديين.
هذه الفرص برغم تراجعها، إلا أنها تظل سانحة، وتظل
الأغلبية الكاسحة من أعضاء أقسام "الديسك" هناك من الدول العربية الأخرى ، كأن
العمل فيها "حكر" عليهم دونًا عن أبناء البلد الذين يزهدون فيه، غير مدركين
أهميته!
4 - عمل أصحاب
"الياقات":
المقصود بهذا التعبير أن عمل محرر "الديسك" هو عمل
"مكتبي" بالأساس، لا حركة ولا تنقل فيه، سواء للحاق بندوة أو مؤتمر، أو اللهاث خلف
حدث أو تطور، أو الجري وراء مصدر أو موضوع.. ومن ثم يظل محررو "الديسك" من أصحاب
"البزات الأنيقة"، والملابس النظيفة ، و"الياقات" التي لا تتلوث، والأجسام التي لا
تعرق، إلا بقدر كد الذهن، وجهد اليد!
خلاصة القول: إن الصحفي
"الديسك مان" الجيد والماهر والمتمكن.. "عملة نادرة" في صحافة اليوم، ولا تخلو
صحيفة من الحاجة إليه في أي يوم.. فقط لتكون- أيها القارئ - ذلك الصحفي عليك أن
تمتلك الأدوات اللازمة، وتتمكن من القدرات الواجبة.. وبعدها "اعقلها
وتوكل"!