تحية عبد الناصر كتبت مذكراتها مرتين ثم أحرقتها
الحكاية الثانية: تحية عبد الناصر كتبت مذكراتها مرتين في حياته ثم حرقتها و« التالتة تابتة»
-- المذكرات من 350 صفحة كتبتها مرة واحدة سنة 1973 وتم حفظها في خزانة بنكية
عرفت هدي عبد الناصر عن قرب منذ ست سنوات.. حين نشرت لأول مرة خطابات والدتها السيدة تحية كاظم إلي زوجها الصاغ ( رائد ) جمال عبد الناصر في صيف عام 1948 وهو يقاتل في فلسطين علي ذمة الكتيبة السادسة.. كانت هدي عبد الناصر تراجع الأسماء والتواريخ والأحداث بدقة مذهلة.. ليس فقط لدراستها العلوم السياسية التي تجاوزت فيها درجة الدكتوراة.. وإنما أيضا لأنها حملت علي عاتقها مهمة توثيق تاريخ أبيها الذي غير وجه المنطقة، بمفردها حتي ينجو من المسح والشطب والتكسير.. طبقا للعادة الفرعونية الشهيرة. لقد حققت خطب جمال عبد الناصر بعد أن سمعتها علي مئات من الشرائط.. وهي مهمة مستحيلة مع زعيم تواصل مع الجماهير عبر أثير الراديو.. واكتشفت قبل نشر الخطب في ( 12 ) مجلداً أن هيئة الاستعلامات التي كانت تطبعها نسيت فقرات لا تعد ولا تحصي منها.
وبعد وفاة جمال عبد الناصر وضعت هدي يدها علي شنط من وثائقه الشخصية والرسمية وراحت طوال سنوات مضت تفك طلاسم خط يده القريب من خط الأطباء قبل أن تصنف هذه الوثائق وتجهزها للنشر بعد أسابيع في ثماني مجلدات ستقلب كثيراً من حقائق التاريخ خاصة في سنوات ما بعد الهزيمة.
أما سر الأسرار فكان مذكرات والدتها تحية كاظم عن حياتها مع أبيها.. وهي مذكرات مكتوبة في 350 صفحة.. علي سطر وسطر.. وقد كتبتها مرة واحدة عام 1973.. لكن.. المفاجأة التي لا يعرفها سوي عائلتها أنها كتبت هذه المذكرات مرتين في حياة جمال عبد الناصر.. لكنها حرقتها.. وهو ما أحزنه.. لتعيد كتابتها بعد عامين من رحيله.
اللافت للنظر أن لغة المذكرات سليمة وسلسة وإن شابها بعض التكرار الذي حذفته هدي قبل أن تدفع بها إلي دار الشروق لنشرها في كتاب لن تزيد مادته علي مائتي صفحة بجانب صور نادرة لم يرها الناس من قبل.
كانت المذكرات محفوظة في خزانة بنكية واتفق أبناؤها وبنتاها علي ألا تنشر إلا بموافقة جماعية منهم.. وهو ما حدث مؤخرا.
وتحية كاظم ابنة تاجر غني توفي عام 1937 بعد أن أوصي بتجارته لابنه الكبير عبد الحميد لضمان استمرارها كعادة تلك الأيام.. وأوصي بتوزيع باقي الثروة من سندات وعقارات علي باقي أبنائه وبناته.. عناية ومنيرة وتحية ومصطفي الذي غضب من وصية الأب فقرر ترك مصر وسافر إلي أوروبا وانقطعت أخباره بسب الحرب العالمية الثانية ولم يعد إلا قبيل انتهائها. تعلمت تحية في مدرسة " سان جوزيف " الفرنسية.. وكانت موهوبة في أشغال التريكو والكانفاه وتلعب علي البيانو الذي تعلمته بالسمع.
تقدم جمال عبد الناصر لخطبتها ثلاث مرات أولها عام 1942.. لكن شقيقها عبد الحميد رفض.. فقد شعر بأن وظيفة الضابط لا تناسب مقام عائلته وبعد أن تدخلت شقيقتها منيرة وافق علي مضض.
كان يناديها " يا شيري " وكانت تناديه بها أيضا.. وحفر علي دبلة زواجه تاريخ اليوم الذي طلب فيه يدها وليس تاريخ يوم زواجهما.
ذات صيف وهي مع عائلتها في سبورتنج اكتشفت أنه يغني في الحمام فأبدت إعجابها بصوته فقالت شقيقتها الكبري: " يبدو أنك من شدة حبك له متصورة أن صوته زي صوت عبد الوهاب ".
كانت الخطوبة في 15 يناير 1944 وفي 29 يونية من نفس العام تزوجا.. وزفتهما نعيمة عبده بالأغنية الشهيرة " اتمخطري يا حلوة يا زينة ".. أما البوفية الذي كان في بيت عائلتها فقد اشرف عليه عزوز العشي وكان متخصصا في مجاله.. وقبل أن تدخل تحية بيتها حملها جمال عبد الناصر. كان شهر العسل في الإسكندرية وعندما عادت منه ظهرت عليها أعراض الحمل.. لكن.. لم يكتب للجنين البقاء.. وعندما جاءت هدي سميت علي اسم زوجة صديقه حسن النشار.
تزوجت تحية في شقة بحي العباسية.. في شارع الجلالي.. بالقرب من شارع أحمد سعيد.. وفرشت الشقة من محلات علي خليل للموبيليا وبقيت فيها طوال وجود زوجها في حرب فلسطين وبعدها انتقلا إلي شقة أخري في كوبري القبة.. عبارة عن دور تعلية في فيللا بشارع والي بالقرب من قيادة الجيش مكونة من ثلاث حجرات للمعيشة وثلاث حجرات للنوم.
إن ما كتبته تحية في مذكراتها عن زوجها سيمفونية حب من نوع خاص لرجل يستحقها.. وقد حان الوقت لسماعها.
الحكاية الثالثة: بسمة بنت نولة درويش وبشري بنت أحمد عبد الله: الفن في بيوت سياسية
ولدت نولة درويش في بيت المحامي اليساري الجريء يوسف درويش ولم يمنعها سحرها الشخصي من أن تمارس العمل السياسي بجميع اشكاله المعلنة والخفية ولم تفرق يوما بين ما تؤمن به وما تفعل فحافظت علي سلامتها النفسية والعصبية وحافظت علي أصدقائها القدامي ولم تفقد حبال الود بينها وبينهم.
عرفتها منذ سنوات طوال.. ولكنها لم تتغير.. ظلت نفس الشخصية القوية.. البسيطة.. المحبة للبشر.. المتطوعة لخدمتهم.. المؤمنة بقدرة المرأة علي مشاركة الرجل في التغيير.. المصرة علي انتصار الضوء علي العتمة مهما طال الزمن.
بهذه الروح المتفتحة ربت ابنتها الوحيدة بسمة.. كتبتها بحروف الشجاعة والثقافة والعاطفة والموهبة.. فخرجت نجمة سينمائية متميزة.. صعدت درجات من النضج الفني في العام الراحل وهي تجسد بطولة فيلم " رسائل البحر " لمخرج يسكت دهرا وينطق إبداعا.. داود عبد السيد.
وقبل أن يرحل العام نفسه ايضا تألقت بشري في فيلمها "678" كاشفة عار مجتمع مكبوت يمارس كل شيء عن بعد.. من الجنس إلي السياسة.. ومن العمل إلي الحب.
وبشري اكتفت باسمها الأول دون أن تكمله باسم ابيها أحمد عبد الله.. استاذ العلوم السياسية الذي تخرج في نفس كليتي وتعرض لاضطهاد شخصي وعلمي بسبب قيادته للحركة الطلابية المضادة للسادات في بداية سبعينيات القرن الماضي.. وكان جيله آخر أجيال العمل السياسي في الجامعة قبل أن تترك خالية للإخوان المسلمين والجماعات الإرهابية التي لم تعرف التفاهم إلا بالرصاص.
كان أحمد عبد الله موهوبا في شحن النفوس الشابة الغاضبة وتحريكها للضغط علي النظام كي يحرر أرضه المحتلة من رجس الإسرائيليين.. وكان اسما كفيلا بتحريك كل فرق الأمن المركزي.
وقد عرفته في تلك الأيام البعيدة واقتربت منه ونشرت له مقالا يكشف فيه العلاقة بين الإمبريالية وطوابع البريد.. لكن.. الزمن فرقنا.. ولم أعد أسمع أخباره إلا عن بعد.. حتي رحل عنا فجأة!
شاهدت بشري في الأفلام التي تعرضها قنوات السينما التليفزيونية.. لم أسع لرؤية أعمالها في دور العرض.. فقد كانت تحتمل الانتظار.. ولو لسنوات.. لكنني.. غيرت رأيي بعدما سمعت عن فيلمها الأخير " 678 ".. فقد طلبت مشاهدته قبل أن يراها الجمهور.. شممت بحاستي الصحفية أنه فيلم مختلف.. وصدقت توقعاتي.
لقد استردت بشري روح أبيها.. بل إنني رأيت صورته في ملامحها وسمعت صوته وهي تعبر عن نفسها وتنفست حماسه وهي تعرض قضية النساء والبنات في وطنها.
إن البيوت التي تحصن أبناءها بالسياسة تضمن للوطن مبدعين ومهنيين ملتزمين ولو بعد حين.