يقف ابن آدم مشدوها في تسارع الزمن، وطي صفحاته بسرعة عجيبة، فهذه أيام وليالي سنة كاملة انصرمت وطويت في سجل الماضي وفي أرشيف الحياة الكبير بما حوت من أحداث مفرحة أو محزنة، ويئس ابن آدم من عودة هذه الليالي والأيام التي قضى ربك بالتصرف فيها، وتلك الأيام يداولها بين الناس سبحانه، ثم وضعت تحت أقدام الماضي الغليظة، فهل كان لك فيما مضى عبرة وعظة؟ أم أنها مرت كمر السحاب على من هو سالك بالصحراء يكابد ضمأها وجوعها ولا ظل يقيه حر شمساً؟ ويرى أنه سيتغلب عليها ويهزمها، فإن في هذا المشهد صورة لرحلة الحياة في هذا الوجود إلى ربنا الموجود سبحانه.
فهل تجاهلت كل أعمالك فيها؟ فإن كانت أعمال خير لا تريد إطرائها لترى أثرها يوم لا ينفع مال ولا بنون، وحتى لا تعجب ويصيبك الكبر والرياء فتخسرها، فنعم التناسي.
أما إن كانت خلاف ذلك فلما التناسي؟ ولما التجاهل؟ ولما تحميل نفسك بديون المعاصي والآثام ليكون السداد من حر حسناتك وليس لك بديل عنها؟ ولما التراخي ولما الكسل ولما الخمول ولما التواني؟؟ وأنت في دار الصلاح وأرض الفلاح تزرع أرضك وتتعاهد حرث وتجني ثمرات توفيق الله لك. فاغتنم أيامك ولياليك ودقائقك وثوانيك، واستغفر ربك وتب إليه مما كان الشيطان يناديك إليه، ويسعد بصحبتك فيه حتى يؤذيك.
فإن نبينا- صلى الله عليه وسلم- كان يستغفر الله ويتوب إليه في يومه أكثر من سبعين مرة وقيل مائة مرة، فارتق بنفسك إلى مصاف المهديين في اتباع هدي خير المرسلين، والاقتداء بالصديقين ومرافقة الصالحين المتقين، وطلب إدراكك جائزة الشهداء وأحسن لتكون لهؤلاء رفيقاً، واعتذر مما قصرت فيه من حق ربك الذي وهبك الحياة ومتعك بالصحة ونعمه التي لا تحصى.
وعليك بنفسك احمل عليها عصى التقوى وقدها بزمام الخشية من الله، واحذر منها فإنه إما أن تسوقها إلى الجنة، أو تنكص بك إلى درك الجحيم.
فها أنت قد أمهلك ربك ومنحك فرصة أخرى فقدها غيرك لتدرك شهر الغفران وتتنعم بموائد الرحمن ذكر وقرآن وصيام وقيام، يناديك ربك الحنان بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فما هي التقوى التي اختصها بشرف الصيام؟! إن هذه التقوى، أن يطاع الله فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
وقال سبحانه بعد هذا النداء: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] ثم عقب جل في علاه ببيانه سبحانه بأنه قريب مجيب لكل من لجأ إليه فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وكأنه بهذا يوحي أن بعد إكمال الصيام يحثك لرفع يديك لتشكر فضله وتطلب رحمته وترجو عفوه ومغفرته وتسأله جنته وتتعوذ به من ناره.
فالمقصود الأعظم من الصيام هي تقوى الله- تعالى-: وتفسير هذه التقوى الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.. فما أجمل الصيام كيف يهذب النفس ويرفع من قدرها ويعلي منزلتها ويرتفع بها إلى طبقات النفوس الزكية والأرواح المطهرة؛ لأنه سبب لغفران الذنوب وتعظيم الأجور، فقد أضافه ربك لنفسه فزاده تشريفاً وترغيباً. حيث قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه- تبارك وتعالى-: «كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله- عز وجل-: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» متفق عليه. وقال أيضاً: «لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به» رواه البخاري. ثم أتبع ذلك سبحانه بقوله: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي» متفق عليه. فمن أكرم من الله في العطاء وأوفى منه بالإتمام بما وعد فسبحانه له الكرم والمنة. وانظر إلى دور الإيمان في ماهية الصيام في هذا الشهر الفاضل بالذات، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدّم من ذنبه» متفق عليه، «ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه.
فأين المشمرون وأين أصحاب المكاسب والتجارة الرابحة مع رب العالمين؟
وفيه ليلة القدر خير من ألف شهر التي من قامها إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، وإليك يهدي ربك النفحات التالية لتخلص النية فتنال شرف العطية، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضى الله عنه- أنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ اَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ اَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» متفق عليه، وورد أيضاً عن أبي هُرَيْرَةَ- رضى الله عنه- أنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا كَانَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ اَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَغُلِّقَتْ اَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» رواه مسلم.
فو الله وتالله، إنه لمما يفرح الصدور ويبهج القلوب، أن تشم عبق الجنة من خلال أبوابها بعد أن تفتحها بالطاعات لرب السماوات، وإنه لمن دواعي السرور أن تغلق أبواب جهنم ويقيد معها أعوان المغرور والداعي إلى أعظم الشرور ذلك المأسور بحب الفجور، الشيطان الرجيم.
نقف للنظر في أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- في استقبال رمضان فنراها على صنفين:
الساهي اللاهي: أعد العدة وأشغل أهله وشد ثيابه لتحمل بطنه فكدس أنواع الأطعمة والأشربة وكنز منها ما يكفي لسنة كبيسة، وكأن الجوع الذي استعاذ منه نبينا- صلى الله عليه وسلم- يبدأ مع أول ليلة من رمضان، وظلم رمضان بتحويله إلى شهر منافسة عظيمة ومؤتمر تسمين في التفنن في الأطباق والموائد العجيبة فسبحان الله، ثم اجتهد في تقسيم شهره مابين أكل وشرب وقطع نهاره بالنوم وليلة بالسمر ولم يغفل شراء الأثاث والملابس ليباهي بها في آخر أيامه، فأين المقصود والغاية النبيلة من صيام رمضان، فبدلاً من الشعور بحاجة الفقراء والجوعى والعطف عليهم عكس ذلك ونسي أن في كل كبد رطبة أجر، فعطف على نفسه فأتخم وبطر وأسرف وبذر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ملأ بطنه فغلبه الخمول والكسل فأخلد للمخدة فثقل نومه وتراخى عن صلاته إن لم يدعها بالكلية هجر القران في أشرف زمن وابتعد عن تزكية نفسه أكثر من اللغو والغيبة والنميمة وتفنن في أكل لحوم الناس ولم يكفه أكل لحوم الأنعام، وتناسى قوله جل جلاله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:13]، ومتع نفسه الأمارة بالسوء وأطلق نظره في الأفلام والمسلسلات ناهيك عن التنقل بين القنوات وما أدراك ما لقنوات وتمتع بما فيها من هفوات، استهزاء وتنقص، تهكم وسخرية.. فتجده، إن كان ليس لديه عملاً قلب نهاره ليل فنامه بأكمله وضيع جميع صلواته، وإن كان طالباً ذهب لمدرسته متراخي الأطراف قد أجمع أمره أن ينام على منضدته الدراسية، و إن كان موظفاً قدم إلى عمله كسلاناً خاملاً ضيق الصدر قليل الاهتمام بمراجعيه بحجة أنه صائم، ويظهر أن الصوم قد أنهكه، وقد نسي المسكين أن رمضان شهر النشاط والجد بل شهر الجهاد في سبيل الله، فقد كان أسلافنا يقدمهم محمد- صلى الله عليه وسلم- يشتاقون للجهاد في سبيل الله في رمضان خاصة، فهل معركة بدر عنك بعيدة والله يقول فيها: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]؟ وهل فتح مكة غاب عن الأذهان والله يقول فيه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]؟ وهل عين جالوت طمسها حاضرنا المريض؟ وهل فتح الأندلس وضع في أرشيف النسيان؟ ومعارك كثيرة يكفي منها ما أشرنا إليه. كانت كلها في رمضان المبارك، كأني أنظر لتلك الرؤوس الطائرة وتلك الدماء السائلة على صعيد الأرض، فهل كان الصيام مانعاً لهؤلاء الرجال الأفذاذ ولم يتوانى أو يحجم أحد منهم قط؟ فعباراتهم قولهم للحياة: إنها لحياة طويلة لأن آكل هذه التمرات؟!، أو قوله بخ بخ؟! لهذه الحياة، وأنت تنام جالساً وتتضجر واقفاً، ولا تقوم بعملك الذي هو أمانة في عنقك، واعجباً لهذا المنطق العقيم والمبدأ السقيم!! فالجد في رمضان يرجى من ورائه الثواب وإرضاء رب الأرباب. فيا من كنت من هذا الصنف أو خططت لتكون أو لتشارك فالبدار البدار إلى العودة قبل فوات الأوان.. فلا يكون أول شهرك مشغول بالطعام ووسطه بالسهر والسمر وآخرة التنقل بين الأسواق بشراء الملابس وأثاث البيت، فينصرم رمضان ويرفع خيمة بركاته، وقد حرمت كرم الرحمن ورضوان الحنان المنان وفقدت غفران الذنوب والتقرب إلى ربك بكل محبوب.