النبوية
(10) الإسراء والمعراج
أنزل الله جبريل ومعه ملك الجبال
فسلما على النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ملك الجبال: يا محمد! إن الله
قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرنى بأمرك،
فما شئت؟ إن شئت أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً، وكما شد
الله أزر نبيه صلى الله عليه وسلم بنزول الملائكة، فقد شد من أزره أيضاً
بأن بعث إليه نفراً من الجن استمعوا إلى القرآن وآمنوا به، فكأن الله تعالى
يعلمه أنه لن يتركه. فإن تخلى عنه أهل الأرض ففي العوالم الأخرى من الجن
والملائكة من يشد أزره ويؤمن به، ثم إن الله الذي هدى هؤلاء الجن وهم من
نسل إبليس، وجعلهم دعاة ومنذرين ، لقادر على تحويل عتاة قريش وثقيف إلى
مؤمنين ودعاة وحماة للدين بعد حين وقد كان ذلك. لقد أراد الله أن ينال
الداعية الأول في الإسلام هذه المشاق في سبيل إقامة الدين حتى يكون قدوة
لمن بعده من العلماء العاملين، والدعاة الصادقين. ويعود النبي صلى الله
عليه وسلم إلى مكة بعد رحلة المعاناة، ليجد أشرف تكريم من ربه، وأعظم
مكافأة على تحمله للآلام والأحزان في ذات الله، فبعد سنوات ثلاث من الحصار
في شعب أبي طالب ومعاناة الجوع والحرمان، وبعد فقد عمه الشفيق وتجرؤ
المشركين عليه ،وبعد فقد الزوجة الحنون التي كانت تواسي وتعين، وبعد خيبة
الأمل في ثقيف، وما ناله من أهلها من جراح وآلام، ها هو ربه سبحانه وتعالى
يكافئه ويرضيه، ويرفعه ويدنيه، ويخلع عليه من حلل الرضا ما ينسى معه كل حزن
وتعب، وألم ونصب { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا
حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} {
الاسراء:1} وقد هيأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم للإسراء والمعراج تلكم
المعجزة الفريدة، بمعجزة أخرى سبق أن وقعت له وهى شق صدره، غير أن شق صدره
هذه المرة لم يكن لنزع خط الشيطان منه، فقد تم يوم أن كان رضيعاً في
الرابعة، وأما اليوم فإن جبريل ينزل ليغسل صدره بماء زمزم، ثم يأتي بطست
ممتلئ إيماناً فيفرغه في صدره صلى الله عليه وسلم، صحت بذلك الروايات في
الصحيحين وغيرهما، فوجب التسليم بها دون التعرض لصرفها عن حقيقتها، هكذا كل
خوارق العادات التي وقعت لنبينا صلى الله عليه وسلم، لأن قدرة الله تعالى
لا يستحيل عليها شيء، وقد ذكر أن الحكمة من شق الصدر هذه المرة وملئه
إيماناً وحكمة تهيئته لهذه المكرمة التي خص بها، وتظهر هذه الحكمة في عدم
تأثر جسمه بالشق وإخراج القلب مما يؤمنه من جميع المخاوف العادية الأخرى،
ثم تبدأ الرحلة بالروح والجسد معاً، فيسير به البراق من مكة إلى بيت
المقدس، وهناك يصلى بالأنبياء، مما يبشر أن المستقبل لدينه، وأن القيادة قد
انتقلت لأمته . لقد جمع الله له الأنبياء فأقروا بإمامته، وصدقوا بنبوته،
وصلوا إلى قبلته، ثم خرج من المسجد الأقصى فأتاه جبريل بإناء خمر ولبن
فاختار اللبن، فقال جبريل: أصبت الفطرة، ثم عرج به إلى السماء فيرحب به أهل
كل سماء، ويلتقي فيها بالأنبياء، وكلهم يقول له: مرحباً بالنبي الصالح،
والأخ الصالح. ويرى جبريل على صورته وله ستمائة جناح ساداً الأفق، ويرى
البيت المعمور في السماء السابعة وما يدخله من الملائكة ويرى ويصف سدرة
المنتهى، وعندها جنة المأوى، ويصف نهر الكوثر، وما رآه من أنهار الجنة
الأربعة، ويرى أقواماً من أمته يعذبون بأعمالهم، كأهل الغيبة، والخطباء
الذين يقولون ما لا يفعلون، ثم يرتفع إلى مقام يسمع فيه صريف أقلام
الملائكة، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا
أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا
يَرَى* وَلَقَد رَآهُ نَزْلةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى *
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى *
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ
الْكُبْرَى} {النجم:10-18} وفرض الله عليه خمسين صلاة فجعل يتردد بين ربه
عز وجل وبين موسى حتى خففت إلى خمس في العدد، وخمسين في الأجر، وفي فرض
الصلاة بهذه الخصوصية ما يشعر أن هذا الركن لأهميته يجب أن يكون معراجاً
يرقى بالناس كلما تدلت بهم شهوات النفوس وأغراض الدنيا، وتنتهي الرحلة
الطويلة في وقت قصير، والله على كل شيء قدير، ويرجع إلى مكة ماراً ببيت
المقدس مرة أخرى، ويصبح النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس، وقد كان أمس
معهم فيخبر قومه بما وقع، فارتد أناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا
بذلك إلى أبي بكر رضى الله عنه، هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسرى به الليلة
إلى بيت المقدس! ونحن إنما نقطع ذلك أكباد الإبل شهراً! قال أبو بكر: أقال
ذلك! قالوا: نعم! قال: لإن كان قال ذلك، لقد صدق! قالوا: أو تصدقه؟ أنه ذهب
الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم! إني لأصدقه فيما هو أبعد
من ذلك، أصدقه في خبر السماء! في غدوه أو رواحه! فلذلك سمى أبو بكر
الصديق.
لقد كان الإسراء والمعراج تطميناً ومواساة للنبي صلى الله عليه
وسلم وفتنة للكافرين، الذين زاد عنادهم وكفرهم ، ولبعض ضعفاء الإيمان ممن
زلزل الحادث إيمانهم فكفروا ولم يعودوا إلى حظيرة الإيمان حتى قتلوا. وقد
تأول البعض حادث الإسراء والمعراج فزعم أنه
رؤيا منامية . ومنهم من زعم
أنه بالروح لا بالجسد وكل هذا غير صحيح . إذ
لو كان مناما لما استنكرته
قريش ولما ارتد بعض المسلمين ، ولم يكن فيه شيء من الإعجاز ، وكونه مناما
يخالف صريح الآية : "سبحان الذى أسرى بعبده " (الإسراء1) فابتداء الآية
بالتسبيح لفت النظر لأمر هام ولفظ العبد يطلق على الروح والجسد معا