كان الطريق مكتظا بالسيارات ـ كعادته ـ أو قل بالميكروباصات, لمزيد من الدقة, ينعق تباعوها من الشبابيك كالغربان الجائعة, حينما لمحت ذلك الفتي ابن الرابعة عشر تقريبا,
وقد أعيته الحيلة في استكمال السير علي' مانصفه' مجازا' بالرصيف', فلم يجد الفتي بدا من النزال ـ وليس فقط النزول ـ إلي نهر الطريق العام الذي كنا فيه وقوفا بالسيارات في انتظار صافرة مختنقة يطلقها هذا المجند البائس في قلم المرور, الذي أكاد أشعر بأنه كان فاقد الإحساس بالمكان والزمان معا, فلما وطئت قدما الفتي الأسفلت, كان لزاما عليه أن يتلوي كالثعابين بين المسافات الضيقة المتاحة بين' غابة الصاج' أو ما نصفه مجازا بالسيارات التي تسبب مجند المرور في تراكمها, فلما كان أن اقترب الفتي من شباك الميكروباص الشاخص أمام سيارتي مباشرة, كان ان شاهدت أغرب موقف في حياتي: إذ سرعان ما أخرج أحد الراكبين ذراعه ممتدة إلي الخارج دون سبب فصفع الفتي علي' قفاه' صفعة مدوية, ما أذهلني وأذهل الفتي بلا شك, والذي سرعان ما التفت نحو من صفعه يحاول أن يتذكر معرفة سابقة بينهما تستدعي مثل هذا التصرف أو علي الأقل تبرره, فيبدو أنه لم يجد!! و لقد كان من الطبيعي جدا أن ينطلق قاموس شتائمه مدويا, أما غير الطبيعي فكان ليس فقط في ضحكات المعتدي, وإنما ضحكات كل من كانوا داخل الميكروباص!!
المشهد بتفاصيله العامة متكرر: زحام وضوضاء و'هرجله' وربما' هرتلة' ـ اذا جاز الوصف ـ ولكن أي طاقة تلك التي حركت يد هذا المعتدي نحو' قفا' المعتدي عليه دون أدني سبب؟ لا تقنعني بأي حال من الأحوال بأنها طاقة إيجابية, إنما هي ولا شك طاقة مغرقة في السلبية!! ولكن تري إلي أي نوع من أنواع الطاقات السلبية يجنح مثل هذا الاتجاه؟
وقبل أن يجرفنا السرد فتتوه معاني الكلمات, دعني بداية أحاول أن أحرر معك كلمة' السلبية' من براثن ذلك المعني الضيق الذي رحنا نكبلها به منذ سنوات وسنوات, حتي لم يعد لها في الأذهان سوي معني واحد ألا وهو' عدم المشاركة'!! وهذا ليس ما نقصده, إنما نحن نقصد تلك النزعة نحو الاتجاه إلي الأسوأ, أو قل الجنوح الدائم إلي السييء حين الاختيار; وهو ميل قد يبدأ بتوافه الأمور, ولكنه قد يمتد ليشمل أعظمها أيضا, فنفس الطاقة التي توجه المرء إلي هذا هي نفسها التي توجهه إلي ذاك, وإن بدا الأمر مختلفا ظاهريا..( وكذلك المجتمعات)!!
وحينما تتفشي هذه الروح داخل نسيج المجتمعات, تسعي العقول إلي( تقفي) آثارها واستبيان ثنايا هذا الفكر الذي يقود مجتمعاته دوما إلي الأسوأ!! فيشيرون تارة إلي قلة الانتماء, ويشيرون تارة إلي الجهل, ويشيرون تارة إلي الفساد وتارات ـ حين تعييهم الحيل ـ إلي الحكومة, ولكني ألمح طاقة أخري قابعة وراء هذا السلوك أراها أكثر شمولا وأشد عمقا في التأثير علي العقل الجمعي المصري المعاصر, إنها تلك الرغبة الدفينة الحثيثة في' الانفلات'; فالمجتمع يلح نحو الانفلات.. المجتمع يضغط من أجل الانفلات.. المجتمع ينزع إلي الانفلات, تقاومه( أحيانا) قوي غير متكافئة لا تقوي علي السيطره إلا لفترة محدودة ثم سرعان ما تخور, فيفيض الانفلات فيضا من كل جانب!! ولست أري غرابة في ذلك ولا حاجة إلي دراسات للجماعة في شيء, ذلك لأنه من الواضح جليا أن الوحدة الرئيسية التي يتشكل منها المجتمع ـ ألا وهي الفرد ـ تنزع بطبيعتها للانفلات, وبالتالي فإن تعدد الأفراد أصبح في مجتمعنا لا يعني سوي تعدد قوي الانفلات, وتراكم قوي الانفلات تلك أصبح لا يعني سوي تزايد الضغط نحو الانفلات.. فيحدث الانفلات, وهو في حد ذاته' نزاع للشوي' لسان حاله' هل من مزيد'!!
لقد تحول الانفلات في حياتنا اليومية إلي كيان متربص بكل شيء لا لشيء إلا لكي يصرعه, يود لو أنه يحول كل حديقة إلي' مزبلة', كل شارع إلي حاره, كل رمز إلي' مسخة', كل طهر إلي نجاسة!!
إن قوي الانفلات تضغط وتضغط ولن يرتاح لها بالا إلا وجميعنا سواسية فوق عربات الكارو متكدسين, يمسك أحدنا بطبلة والآخرون بصاجات, والجميع يهذي بأغنيات سوقية بالية تجوب شوارع رثة ملؤها الحفر والنقر, ينطلق من محلاتها صوت الكاسيت يدوي بأحط الألحان, تفترش الأرصفة' بهلاهيل' منسوبة للغرب كذبا بماركات مزورة, وعربات فول متراصة علي الجانبين تبتاع للناس سلعتها في أطباق' صاج' خرجت لتوها مبتلة بمياه' أطشات'( جمع طشت) ماؤها آسن, امتزج ببقايا مخلفات طعام من سبقوهم إلي هذا' النعيم', وشحاذون ينتشرون في كل البقاع يطلبون الحسنة من معوزين أخر أمثالهم, يتحايلون جميعا علي سبل العيش بالمكر والدهاء في رداء الذكاء, يتبادلون فيما بينهم خبرات نبتت في أصل هذا الجحيم وكأنها' رءوس الشياطين' ما عادت تسمن ولا تغني من جوع, يتصورونها ذات نفع ما دامت عملتها رائجة في ردهات هذا المجتمع, وهي البالية الباعثة علي الضحك و التندر في مجتمعات الآخرين ممن نفضوا قوي الانفلات تلك منذ قرون!!
ثم إليك بهذه النخبة المنتقاة عشوائيا خلال( يوم واحد) في دفتر أحوال المجتمع المصري:
*' إزالة700 فدان مروية بمياه الصرف الصحي بمدينة الصف بحلوان'( من أصل2500 فدان مماثلة بنفس المحافظة, اعتبرها المحافظ' كابوسا' أزاحه ـ علي حد وصفه)!!
*' ضبط17 طن أرز أبيض غير صالح للاستهلاك الآدمي بكفر الشيخ'.
*' ضبط1284 زجاجة زيت تمويني بسوهاج قبل بيعها في السوق السوداء'.
*' إلغاء تراخيص مخبز بلدي بالمنيا لإنتاجه أرغفة غير مطابقة للمواصفات'.
*' إحالة مدير إدارة بالمنيا و3 مديري مدارس للتحقيق لعدم انضباط العملية التعليمية'.
*' غلق5 صيدليات بالمنوفية لعدم وجود مدير مسئول والاعتماد علي حاصلات علي دبلوم زراعة'!!
*' إحالة3 مسئولي إدارات زراعية بالغربية لتزايد نسبة التعدي علي الأراضي الزراعية في نطاق عملهم'!!
.. ولن' أنبش' لك في دفتر أحوال ستة أشهر فائتة تحمل أخبارا أشد وطأة وأكثر دلالة, جميعها أشبه بتلك الصفعة علي' قفا' الفتي ولكنها مصوبة إلي' قفا' الجميع, وجميعها دالة علي تلك الرغبة العارمة في الانفلات الذي مابعده انفلات.