وأشهد أن الرجل ليس داعية فتنة، ولا هو من أنصار الاستقطاب، ولا هو من دعاة التشدد، فى ذروة الهجوم على د. نصر حامد أبوزيد وجرجرته أمام المحاكم فى محاولة لتكفيره، خرج د. «العوا» فى جريدة «الشعب» يحذر من هذا الاتجاه ويطالب بالتوقف عن اقتياد الكتّاب والمفكرين إلى المحاكم، بسبب آرائهم، وله موقف بالغ الجرأة فى نشر رواية «أولاد حارتنا» ولايزال غلاف الرواية يحمل كلمة نبيلة له عن الرواية وعن كاتبها. ولما رحل عن عالمنا د. نصر أبوزيد، وتقدم بعض فاقدى اللياقة لإعلان الشماتة فى وفاته، دافع د. «العوا» عن «نصر» وقال إنه مسلم، صحيح الإسلام... ولم يعبأ بأن يهاجَم على ذلك الرأى.
لا أقوم هنا برصد مواقف د. «العوا» ولا أعد دراسة عنه وإلا لرجعت لكتاباته ونقلت بعض نصوصها الدالة، لكنى أطرح ذلك للتذكرة، راجيا أن نعرف للناس أقدارها ومكانتها، وألا نخسر أناسا محترمين ونضعهم رغم أنفهم، فى خانة ليست خانتهم، ونصمهم بمواقف هم أبعد ما يكونون عنها، فالدكتور «العوا» يتعرض لهجمة قاسية، نسى أصحابها للرجل تاريخه ومواقفه، وتعجلوا الاتهام لكلمات نسبت إليه فى برنامج بقناة «الجزيرة»..
ويجب أن نضع فى اعتبارنا عدة أمور، من بينها: أن مقدمى بعض البرامج، مصابون بالديكتاتورية الشديدة ونشعر أنهم مجهزون إعلامياً فى ورش جوبلز، فهم يضغطون على المصدر أو الضيف، بمعلومات كاذبة حينا ومغلوطة حينا ثانياً ومفبركة حينا ثالثا لاقتياد الضيف ليقول كلاما بعينه يريد المقدم أن يستمعه وأن يشعل به نارا ليلفت الانتباه إلى برنامجه،
وأظن أن د. «العوا» تعرض لشىء من هذا، وضغط عليه.. يضاف إلى ذلك أنه كان هناك فى ذلك التوقيت حوار «الأنبا بيشوى» فى «المصرى اليوم» ونيافة الأنبا مخيف بشخصه وبكلماته، فزاد ذلك من الاستفزاز والضغط على العوا.. وفوق ذلك كله يجب القول إن بعض المواقع الإلكترونية تفتقد الأمانة المهنية والتدقيق، فتنتزع كلمات من سياقها وتصب الكلمات وفق هوى القائمين على الموقع أو ما يريدونه هم، باختصار «توجيه» كلام المصدر أو المتحدث، وقد حدث ذلك معى شخصياً أكثر من مرة.
نسب إلى د. «العوا» القول بأن «الكنائس مليئة بالأسلحة» ومن يعرف د. «العوا» كأستاذ للقانون يتأكد أنه لا يلقى بالكلمات هكذا، فلا دلائل ولا قرائن على أن الكنائس بها أسلحة، فضلاً عن أن هناك دولة ويوجد قانون، ومؤسسات الدولة وقانونها لا يجيزان ذلك، فضلاً عن أن الكنائس دور عبادة وليست مكانا لتخزين السلاح. والدولة المصرية قد تغمض عينها عن أشياء معينة، لكنها فيما يتعلق بالأمن والسلاح منتبهة جيداً، وتخزين السلاح فى الكنائس يعنى عقد صفقات سلاح مع جهات أجنبية، وهذا لا يمكن أن يتم فى دولة نحن نعرفها جيدا.
والرجل رد بالحرف الواحد على صفحات «الشروق»- عدد الاثنين- «لم أقل هذا الكلام، وإن قلته فأنا مستعد للاعتذار»، هذا يكفى وهو قول واضح، يجعلنا نحترم الرجل أكثر، وفى الصحافة، والإعلام هناك مقولة أن المصدر إذا ذكر أنه لم يقل فهو لم يقل، بمعنى أنه لم يقل حرفيا وإن قال فالنفى يعنى تراجعا ضمنيا أو اعتذاراً، لكن «العوا» لم يتركنا لشىء من هذا، هو يؤكد أنه لم يقل وإن قال فهو مستعد للاعتذار!
الغريب فى الحملة على د. «العوا» أن هناك شكوى تقدم بها مسؤول بالمجلس الملى فى الإسكندرية إلى «رئيس الجمهورية»، وأخرى إلى شيخ الأزهر، ولا أفهم لماذا نزج بالسيد الرئيس فى مثل هذا الأمر؟. «العوا» ليس مسؤولا فى الدولة، وليس عالما أزهريا، ولا هو مسؤول بالأزهر، نحن بإزاء شخصية عامة نسب إليها كلام أقلق الإخوة الأقباط، وهذا الكلام يقلق المسلمين ويقلق كل المصريين.
والرد الصحيح كان أن يتم التأكد حرفياً مما قاله وإذا صح يصدر بيانا بتكذيب ما نسب إليه، أو نفى ما ورد فيه، وإن لم يكن ذلك كافيا يتم اللجوء إلى النائب العام والقضاء، لكن أن تذهب إلى السيد «رئيس الجمهورية» مباشرة أو «فضيلة الإمام الأكبر»، فهذا يعنى عدم مراعاة البعد القانونى ومؤسسات الدولة المعنية، نلجأ إلى الأزهر الشريف لو أن المتحدث نسب إليه رأى فقهى يخالف ما تعارفنا عليه أو يثير قلق الأقباط، ونذهب إلى «رئيس الجمهورية» لو أن «العوا» مسؤول كبير فى الدولة قام بإجراء ضد القانون أو الدستور،
أما أن يقول كاتب رأيا حتى لو كان حادا ولو كان غاضبا أو يثير الفتنة، فالتعامل معه يجب أن يكون مختلفا والتعبير عن رفض رأى قيل أو فكرة طرحت يختلف كثيرا- إن كنا حريصين فعلا على حرية الرأى، حتى لو اختلفنا كلية مع ذلك الرأى أو كان مزعجا ومثيرا للقلق- الرأى غير القرار، وهو كذلك غير «الفتوى» التى تصدر عن جهة رسمية أو مسؤول فى الدولة كبير أو صغير.
قبل رحيله عن عالمنا شكا لى الناقد الكبير د. «لويس عوض» مما تعرض له من هجوم عنيف، ترك على أثره مؤسسة الأهرام، حين أصدر كتابه المثير عن «جمال الدين الأفغانى» وكان ألمه من الهجوم أن هناك حالة من «العشم» يجب أن تكون بين الكاتب والقارئ، وبين الكاتب والناقد، وكان يشعر بأن هذه الحالة اختفت بالنسبة له واختفت فى الحياة الثقافية والأدبية المصرية..
وهذا ما نحن بصدده الآن فى حالة د. «العوا».. هو رجل حوار وضد الفتنة، ولو صح ما نسب إليه لكان يجب أن نتساءل ماذا جرى، وماذا دفع به إلى التحول ونعمل على تفهم ذلك لكن الرجل يقطع بأنه لم يقل ذلك، وهو بتكوينه الفكرى والفقهى بعيد عن ذلك.. ثم هو مستعد للاعتذار لو ثبت أنه قال، وأخشى أن تكون حملة بعض الإخوة الأقباط على د. «العوا» بهدف التغطية وصرف الانتباه عما قاله الأنبا بيشوى لـ«المصرى اليوم» الأربعاء قبل الماضى، وعلى طريقة واحدة بواحدة.
لا تذبحوا «العوا».. فإن ذبحه على هذا النحو يعنى أن نقدم للتطرف وللمتشددين إضافة جديدة، ويعنى أن نخسر مفكراً معتدلاً، وقديما قال الإمام «مالك»: «لو صدر رأى يحتمل الكفر من مائة وجه واحتمل الإيمان من وجه واحد، لحملناه على الإيمان»، فما بالنا قلبنا الرأى ونقوم بعكسه؟!.
محمد سليم العوا ليس من دعاة الفتنة والاستقطاب الدينى ويجب أن نحافظ عليه ليكون كذلك، لأن مصر هى التى تخسر فى النهاية.